"القوات": مصادرة إرادة المغتربين تشكّل استهدافًا لمبدأ المساواة بين المغتربين والمقيمين
جنبلاط يقرن القول بالفعل: خطوة السلاح ورسائل الدولة
يُجيد وليد جنبلاط، كعادته، أن يقول الكثير بالقليل، من دون صخبٍ في الشكل أو مبالغاتٍ في الخطاب. جملةٌ هنا، إشارةٌ هناك، ثم يتركُ للآخرين المهمّة الشاقة في تفكيك المعاني. في مؤتمره الصحافي الأخير أعلن أنّه سلّم إلى الجيش اللبناني ما تبقّى لدى الحزب التقدّمي الاشتراكي من سلاحٍ فردي وعتاد، ودعا كلَّ سلاحٍ خارج شرعيّة الدولة إلى سلوك المسار نفسه. لحظةٌ صافية تُعبّر عمّا يُميّز جنبلاط في تفاعلاته السياسية، وتكريسٌ إضافيّ لقناعته بخيار الدولة، في توقيتٍ بالغ الحساسيّة محلّيًا وإقليميًّا.
المعنى الأعمق لخطوة جنبلاط أنها ليست فعلاً معزولاً، بل امتداداً لمسارٍ طويل من التبنّي الواعي لخيار الدولة. فهو لطالما أقرن كلامه عن نهائيّة مرجعيّة الدولة بالفعل. وللتذكير، فهو في قلب الحرب الأهليّة ولاحقاً بعدها، خرج بقناعةٍ بأن لا بقاء إلّا لدولةٍ واحدةٍ وسلاحٍ واحد. وكرّس ذلك في مصالحة الجبل (2001)، ثم عبر طَيّ صفحة 7 أيار بالحوار الصعب مع "حزب الله". وعلى امتداد مسيرته بقي ثابتًا على قاعدة العيش المشترك والسِّلم الأهلي، وهو اليوم يضيف لبِنةً جديدة: رسالة طمأنةٍ للبنانيين، ورسالة إحراجٍ لكلّ من يُمسك بالسلاح خارج الشرعيّة، واضعاً الكرة في ملعب الآخرين.
تقديم أوراق اعتماد
وإذا كان بعضهم قد وصف الخطوة بأنّها "تقديم أوراق اعتماد"، فإنّ هذا الوصف لا يعدو كونه محاولةً للهروب من استحقاق القيام بالمثل. والحقيقة أنّ مواقف جنبلاط لا تُقاس بمقياس المسايرة، بل بحجم الانسجام مع قناعاته؛ فقد اتّخذ مرارًا مواقفَ عاكست مصالح علاقاته الخارجيّة وخاطرَ بذلك إلى حدَّ اللاعودة. أما في هذه المرحلة بالذات، لعلّه من المفيد التذكير بما لدى جنبلاط من علاقات: تواصلٌ مفتوح مع دول الخليج، خطّ اتصال مع واشنطن رغم التباينات، صداقة تاريخيّة مع موسكو، نقاشٌ مستمرّ مع أنقرة وباريس، واتصالات مع الإدارة السورية الجديدة. فأيُّ حاجةٍ لديه إلى "تسليف" مواقف؟
إذاً لماذا الآن؟ ليس سرًّا أنّ لبنان يعيش ضغطًا دوليًّا متزايدًا حول ملف سلاح حزب الله، عكسه أخيرًا ما نقله الموفد الأميركي توم باراك، واضعًا هذا الملف في صلب أيّ دعمٍ اقتصاديّ مرتقب. وتأتي خطوة جنبلاط لتقول إنّ مقاربة هذا المسار لا تكون بالمواجهة ولا بالتحريض، بل بالمسؤوليّة الوطنيّة التي تؤسّس لحلٍّ تدريجيٍّ يبدأ بالإرادة لا بالفرض.
داخليًّا، ومنذ وقف إطلاق النار الأخير مع إسرائيل، تحاول الدولة استعادة زخمها المؤسّسي؛ فجاء فعل جنبلاط ليدفع العجلة خطوةً إضافيّة، منسجمًا مع خطاب القسم والبيان الوزاري.
إقليميًّا، المواجهة الإسرائيليّة‑الإيرانيّة، وما سبقها في غزّة ولبنان منذ ٧ أكتوبر، أثبتتا أنّ قواعد اللعبة تبدّلت، وأن لا ضمانة للبنانيين سوى دولةٍ قادرة.
رسائل جنبلاط الواضحة
جنبلاط، الذي حذّر طويلاً من "لعبة الأمم"، قرأ مبكرًا هذا الواقع الجديد، وقرّر أن يُقدّم نموذجًا عمليًّا يُوازِن بين متطلّبات المرحلة وثوابت العيش المشترك، موجِّهًا رسائلَ واضحة:
- الدولةُ هي الضمانة، ومرجعيّتُها غير قابلةٍ للتأجيل؛ فالخطوة تُسقِط ذريعةَ استحالة تسليم السلاح، وهي مطلوبة أيضًا لنزع مبرّرٍ - الأرجح أن إسرائيل لا تحتاجه- لشن الاعتداءات، لكنه ينزع منها ورقة تستخدمها كشمّاعة.
- لا نزعَ قسريًّا ولا تحريض؛ بل الحوار الهادئ هو المسار الوحيد لوضع كلّ بندقيّة تحت راية الجيش، بلا استقواءٍ ولا توتّرٍ أهليّ.
- طيُّ صفحات الاقتتال، وتجديد التمسّك بمصالحة الجبل وبالحوار مع حزب الله: السلاحُ الدفاعيّ الحقيقي هو التفاهم الدائم وقوة الدولة.
وليد جنبلاط لم يكن يومًا من محبّي التنظير؛ فهو دائمًا يحوِّل خياراته إلى سلوكٍ سياسيٍّ واضح. اليوم يرفع التحدّي في وجه القوى المعنيّة، وخطوته ليست تخليًا عن القوّة، بل إعادة تعريفٍ لها تحت سقف الدولة.
هكذا يُضيف جنبلاط محطةً جديدةً إلى سجلّ "لحظات الحقيقة" الوطنيّة التي صاغها على مدى مسيرته. نموذجٌ يبيّن أنّ تلازم الدولة والقرار ممكنٌ متى توفّرت إرادةٌ تستبق التحدّيات وتقرأ تحوّلاتها قبل أن تفرض نفسها.
صالح حديفة - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|