استعادة الثقة تبدأ من إحقاق العدالة بين المودعين
كتب العميد الدكتور غازي محمود :
تُواصل الأزمة المالية والاقتصادية التي يتخبّط فيها لبنان مسارها المتعثر، رغم مرور أكثر من ست سنوات على اندلاعها في خريف 2019، حين توقّف تدفّق الرساميل، وانهار سعر الصرف، وتزعزعت الثقة بالقطاع المصرفي. ومع ذلك، لا تزال السلطتان التنفيذية والتشريعية تمتنعان عن اتخاذ الإجراءات المناسبة لمعالجة أسباب الازمة وتداعياتها الكارثية على الاقتصاد والمجتمع، ولا سيما ما يتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحديد حجم الخسائر وتوزيعها بشكل عادل، وإقرار خطة تعافٍ واضحة وشفافة.
في المقابل، اقتصرت محاولات احتواء الأزمة منذ بدايتها، على التدابير التي تولاها مصرف لبنان باعتباره السلطة النقدية، وذلك من خلال سلسلة من التعاميم الأساسية المتعلقة بمسألة الدفع التدريجي للودائع بالعملات الأجنبية ومن ثم تعديلاتها، بالإضافة إلى تعاميم أخرى هدفت إلى تنظيم سعر الصرف وتحفيز عمليات الشراء عبر المنصات. في حين لا يزال مشروع قانون الـ Capital Control ينام في ادراج المجلس النيابي، وكذلك هو حال مشروع قانون الفجوة المالية وإعادة تنظيم المصارف، وإصلاح النظام المصرفي.
وقد شكل التعميم الأساسي رقم 158 فاتحة التعاميم التي اتاحت للمودعين بالعملات الأجنبية الحصول تدريجياً وبشكل شهري على جزء يسير من ودائعهم، موزعة بدايةً بين دفعات نقدية بالدولار النقدي على سعر صرف مدعوم ودفعات بالليرة اللبنانية. وقد اعتبر التعميم الودائع بالعملات الأجنبية المكونة قبل 2019/10/30، ودائع مؤهلة وتنطبق عليها أحكامه، ما يسمح بتطبيقه وفق شروط محددة. مع العلم أن هذا التعميم خضع منذ صدوره عن مصرف لبنان في 8 حزيران 2021، للعديد من التعديلات في آلياته وشروطه.
أما الودائع التي تم تحويلها من الليرة اللبنانية الى العملات الاجنبية بعد تاريخ 30/10/2019، فقد كان على مودعيها الانتظار حتى 2 شـباط 2024 تاريخ إصدار مصرف لبنان التعميم الأساسي رقم 166، الذي أفسح بالمجال امام التسديد التدريجي لهذه الودائع بعد أن كانت مصنفة غير مؤهلة في التعاميم التي سبقته لا سيما منها التعميم الأساسي رقم 158 الآنف الذكر. وبدوره، خضع التعميم الأساسي 166 الى تعديلات عدة في شروطه وآلياته، على الرغم من قصر الفترة الزمنية على إصداره.
ولعل التعديل الأهم الذي أجراه مصرف لبنان على التعميم 166 خلال شهر تشرين الأول عام 2024، هو توسيع مروحة المستفيدين من احكامه، مما سمح للمودعين الذين قاموا بتحويل ودائعهم من الليرة اللبنانية الى العملات الاجنبية بعد تاريخ 30/10/2019، الاستفادة من احكامه، شرط أن تقل عن 300 الف دولار أميركي. فيما تنطبق احكام التعميم 166 على الودائع الناتجة عن تعويضات نهاية الخدمة للقطاعين العام والخاص، وإن كانت توازي أو تزيد عن السقف المُشار اليه أعلاه.
وعلى أهمية التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان في محاولاته لاحتواء الازمة المالية والنقدية، إلا أن الإجراءات والتدابير التي تضمنتها هذه التعاميم، لا يُمكن أن تُشكل بمفردها مدخلاً للحلول المطلوبة أو ضماناً للاستقرار المالي والنقدي أو سبباً كافياً لاستعادة الثقة، كونها أتت خارج إطار سياسة مالية واقتصادية متكاملة. ذلك أن السياسات النقدية مهما بلغت أهميتها لا يمكن أن تقوم مقام السياسات المالية والاقتصادية التي يجب أن تُشكل الاطار الذي يُحدد السياسات النقدية وليس العكس.
ويأتي اليوم التعميم 169 الصادر عن مصرف لبنان والقاضي بضرورة حصول المصارف على موافقة خطية مسبقة من مصرف لبنان قبل تنفيذ أي عملية تحويل أو تسديد لمبالغ تتجاوز سقفاً معيناً، ليحول دون امتثال المصارف التلقائي للأحكام الصادرة عن المحاكم الأجنبية، بحيث يجب أن يُقر القضاء اللبناني وبعد موافقة مصرف لبنان المسبقة الصيغة التنفيذية، لتُصبح هذه الأحكام قابلة للتطبيق في لبنان.
وعلى الرغم من أنّ هذا التعميم لا يمنع تحويل الودائع أو تسديدها، وجل ما يشترطه الاستحصال على موافقة خطية مسبقة من مصرف لبنان للعمليات التي تتجاوز السـقوف المحــددة فــي النصــوص التنظيميــة التي سبق وأصدرها المصــرف، إلا انه أثار لغطاً واسعاً في الأوساط المالية والنقدية على حد سواء، حيث اعتبره البعض شكلاً جديداً وإضافياً من اشكال الـ Capital Control على الودائع.
في المقابل رحبت جمعية مصارف لبنان بالتعميم الأساسي رقم 169 لما يُشكله من قرار تنظيمي، وكونه يشدّد على ضرورة التقيّد التام بقاعدة المساواة في التعامل مع المودعين. معتبرة أنه يهدف إلى حفظ حقوق وحماية جميع المودعين دون استثناءٍ أو تمييز، وتطبيق مبدأ العدالة والمساواة بينهم في ظل الأزمة المالية والاقتصادية. هذه العدالة والمساواة التي كان يجب أن تراعيهما المصارف في علاقتها مع المودعين، ويراعيها مصرف لبنان في جميع تعاميمه المتعلقة بالمودعين والودائع.
وفي الوقت الذي تفتقر فيه تعاميم مصرف لبنان الى قوة القانون على الرغم من قوتها التنظيمية، لا بد من تحويل التعميم 169 الى قانون يُقره المجلس النيابي، منعاً للالتفاف عليه أو تخطي أحكامه من المتنفذين المحليين أو من قبل القضاء الأجنبي. ذلك أن القانون وحده يحفظ حقوق المودعين ويحمي مدخراتهم، وتطبيق القوانين المرعية الاجراء هو الكفيل بإحقاق العدالة وإرساء المساواة بينهم.
انطلاقاً مما تقدم يتبين أنّ إعادة بناء الثقة بالقطاع المصرفي لا تبدأ من مصرف لبنان وحده، بل من التزام المصارف نفسها بمبادئ العدالة والمساواة، وتحمّلها لمسؤولياتها الأخلاقية والاجتماعية تجاه المودعين. لقد شكّلت الأزمة فرصة قاسية، لكنها واضحة في دلالاتها: لا يمكن للقطاع المصرفي أن يستمر كمنظومة مغلقة على الامتيازات، تقايض الودائع بالاستنسابية والتسويف، ثم تتذرّع بغياب التشريعات.
كما أنّ استعادة ثقة المودعين تقتضي من المصارف مبادرة صادقة تتجاوز التعاميم، عبر وضع خطة شاملة وواضحة لتسديد الودائع، من دون استثناءات أو سقوف ظالمة، وبجدول زمني عادل. فالثقة لا تُفرض بتعاميم، بل تُستعاد بالأفعال، وبإعادة الحقّ إلى أصحابه.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|