العاملات المنزليات والأُسر اللبنانيّة... علاقة يشوبها العنف خلف أبواب البيوت
"خلف أبواب البيوت، تتوارى قصص يندى لها جبين الإنسانية لقسوتها، تنبثق منها حالات عنف نفسي وجسدي ومعنوي متبادل، وتتكشف فصول غير مرئية من العنف المزدوج بين العاملات المنزليات والأسر التي يعملن لديها، ليس الحديث هنا عن طرف ضحية وآخر جلاد، بل عن علاقة غير متوازنة تتقاطع فيها المصالح والسلطات.
ففي السنوات الأخيرة، تحول ملف العاملات المنزليات في لبنان قضية إنسانية واجتماعية متشابكة، تشهد الكثير من الانتهاكات والعنف المتبادل، فرغم من أن العديد من العاملات المنزليات يأتين إلى لبنان من دول مثل إثيوبيا، الفلبين، سريلانكا، وبنغلادش بحثا عن لقمة العيش، إلا أنهن كثيرا ما يواجهن ظروف عمل قاسية تصل إلى حدود العنف الجسدي والمعنوي، والتقييد بالعمل القسري أو شبه العبودية وفي المقابل، سجلت أيضا حوادث عنف ارتكبتها بعض العاملات ضد أفراد الأسر، ما يزيد من تعقيد هذا الواقع من العنف المتبادل والذي يكرس الدوامة الصامتة للعنف المتبادل بين طرفي الصراع.
ويقصد بـ"عامل في الخدمة المنزلية" كل شخص أنثى أو ذكرًا، يقوم بأعمال منزلية في إطار علاقة مهنية ويمكن أن تتنوع المهام الموكلة إلى هذا الشخص من تنظيف وطبخ واهتمام بالحدائق وحراسة المنزل ومجالسة الأطفال والاعتناء بكبار السن.
هذا الصراع الغير مرئي والذي تغذيه الأعراف الاجتماعية، والعنصرية البنيوية، وغياب التشريعات العادلة التي تحمي الطرفين ، لا يروى علنا، لكنه حاضر في كل تفصيل يومي من تفاصيل العمل المنزلي، ماغي (اسم مستعار) هي عاملة منزلية من كينيا، تعمل في أحد البيوت اللبنانية تؤكد تعرضها للابتزاز المالي خلال عملها، وتقول "ضغط العمل المنزلي كبير جدا، ولم تكن ساعات نومي تتجاوز الـ5 ساعات، وبعد عدة اشهر من العمل أبلغتني العائلة أن راتبي سيتأخر بسبب الأوضاع الاقتصادية بعدها أبلغوني أنهم اتخذوا القرار بإعطائي راتبي كل عدة أشهر" مضيفة " قبلت هذا الواقع لانني لا استطيع أن أفعل شيئا فما من أحد يحميني" أما ليزا ابنة العشرين عاما فأتت من غانا لتعمل في خدمة تنظيف البيوت في لبنان كي ترسل راتبها لإعانة عائلتها وليستمر إخوتها الأصغر منها بالدراسة بحسب ما قالت لـ "الديار"، وهذا اسمها المستعار، وذكرت أنها كانت تتعرض أثناء عملها اليومي للضرب على الرأس والمعدة، ولا يسمح لها بتناول الطعام المطبوخ، إضافة إلى لائحة من الإهانات طويلة والخصم من راتبها إن أخطأت، وأمام كل ما تتعرض له ليزا لم تتمكن من الهروب أو تقديم شكوى، لأن رب العمل يحتفظ بجواز سفرها، كما يمنع عنها الهاتف.
ويتمثل العنف من الأسر تجاه العاملات بعدة أشكال:
- العنف جسدي "ضرب، صفع، حبس داخل المنزل، الحرمان من الطعام أو الراتب".
- العنف النفسي والمعنوي" شتائم، إهانات، حرمان من الاتصال بأهلها، فرض قيود صارمة".
- العنف الاقتصادي "حجز جواز السفر، عدم دفع الأجور، إرغام على العمل لساعات طويلة دون راحة".
وتشير التقارير الصادرة عن منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش إلى أن غالبية العاملات المنزليات في لبنان يعملن في ظروف غير إنسانية، مع غياب واضح للرقابة الرسمية أو آليات الحماية الفعالة، كما تشير تقارير صادرة عن منظمات محلية إلى أن العديد من العاملات يتعرضن لعنف ممنهج يتراوح بين الإهانات اللفظية، الحرمان من الأجر، وحتى الاعتداء الجسدي، وغالبا ما يصعب الإبلاغ عن الانتهاكات بسبب الخوف، وغياب الدعم القانوني، أو عدم القدرة على التواصل بلغتهن الأصلية.
وتظهر متابعة المركز اللبناني لحقوق الإنسان أن العاملات تعرضن للاستغلال المادي وواجهن العنف الجسدي والنفسي، وسرقت رواتبهن، واحتجزن وسط غياب تشريع واضح ينظّم حقوقهن وواجبات أصحاب العمل، فنظام الكفالة المقيد يشكل بحد ذاته أرضية خصبة لعدم التوازن في العلاقة.
وتخضع عاملات المنازل الأجنبيات في لبنان لنظام الكفالة، الذي تصفه جماعات حقوق الإنسان بالخطير، ولا يضمن هذا النظام حقوق العمل للمهاجرين، كما يسمح لأصحاب العمل بمصادرة جوازات سفرهم واحتجاز أجورهم، وعادة ما يحصل العمال الأجانب على وظائف من خلال وكلاء مقيمين في لبنان، المتحدث باسم منظمة الهجرة الدولية، جوي لوري يؤكد أن " الافتقار إلى الحماية القانونية في نظام الكفالة، إلى جانب تقييد الحركة، يعني أن عمالاً كثيرين يمكن أن يصبحوا محاصرين ضمن ظروف استغلالية، وقد أدى ذلك إلى حالات من سوء المعاملة والعزلة والصدمات النفسية بين العمال المهاجرين".
الاخصائية الاجتماعية غنى العنداري- قسم مناهضة الاتّجار بالبشر في منظمة كفى أكدت لـ "الديار" أن "المنظمة تتعامل مع العديد من العاملات المهاجرات من دول آخرى، ونسعى لحمايتهن عبر تغيير قانون العمل المجحف بحقهن، لتتم معاملتهن كغيرهم من العاملين في البلاد.
لكن المشهد ليس دائما أحادي الاتجاه، تقول السيدة جانيت وهي سيدة في العقد الثامن من العمر وتحتاج إلى من يعيلها، إنها عانت من "خيبة أمل وصدمات متكررة" مع العاملات فخلال سنة واحدة غيرت 3 عاملات، " في البداية تجدهن لطفاء جدا وبعد فترة يتغيرن وترفضن العمل، ويصرخن في وجهي إضافة إلى الاستغلال لانني كبيرة في السن وعاجزة، فإحداهن سرقت مصاغي وهربت".
أما سامي وهو رب عائلة من 4 أطفال يؤكد أنه "مش كل عاملة ضحية، في عاملات بيكذبوا، بيخالفوا القواعد، وبيستغلوا الطيبة أو ضعف الرقابة" ويضيف "أحضرت عاملة حبا بالمساعدة، لا للاستعباد لكنها كانت تتعمد إهمال الأولاد، وتتحدث معهم بكلام بذيء، وتقضي الوقت على الهاتف وعندما حاولنا تقويمها، اتهمتنا بالعنف، وإحداهن تواطأت مع أحد معارفها لسرقة المنزل".
وبحسب دراسة أعدها مركز "الدراسات الإنمائية" في الجامعة اللبنانية عام 2023، فإن 67% من العاملات المنزليات يتعرضن لشكل من أشكال العنف، لكن المفارقة أن 14% من أرباب العمل أفادوا بأنهم تعرضوا لأذى مباشر من العاملات، سواء عبر السرقة، الإهمال، أو حتى التهديد.
ويرى علماء النفس والاجتماع أن العنف من قبل العاملات ضد الأطفال أو أرباب العمل نادر، ولكنه يحدث أحيانا كنتيجة للضغوط النفسية القاسية أو الاضطرابات العقلية الناتجة عن العزلة وسوء المعاملة، وفي بعض الحالات، تكون هناك نية انتقامية نتيجة العنف المتكرر ضدهن، إضافة إلى الجهل بثقافة الأسرة أو غياب التفاهم الذي يؤدي إلى توترات قد تتصاعد، ويتمثل هذا العنف بالإهمال المتعمد أو الإيذاء الجسدي للأطفال وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة وهم الحلقة الأضعف، إضافة إلى التكسير السرقة أو محاولة الهروب من المنزل،تحد للسلطة، استفزاز، نقل معلومات خارجية بقصد الإضرار وفي حالات نادرة، محاولات القتل أو التسميم بدافع الغضب أو الانتقام.
ويؤكد العلماء بأن هذا العنف المتبادل له أثاره النفسية والاجتماعية على كل الأطراف فهو يؤدي إلى اضطرابات ما بعد الصدمة، اكتئاب، خوف دائم لدى العاملات المعنفات، إضافة للعزلة، كما يولد شعورا بعدم الامان للعائلات التي تعرضت للتعنيف من قبل العاملات والشعور بالخيانة خصوصا عندما تكون ضحية العنف أحد الأطفال، أما على الصعيد الاجتماعي فهي تعمق الانقسامات الطبقية والعنصرية، وتعزيز الصور النمطية.
هذه الشهادات تكشف عن واقع غير نمطي فلا العاملات دائما ضحايا مطلقات، ولا الأسر دائما جناة، بل نحن أمام شبكة من العنف المتبادل، بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي دفعت العديد من الأسر لتقليص النفقات، أو تأخير الرواتب، أو التخلص من العاملات دون حقوق، والجهل الثقافي المتبادل، إضافة إلى اختلال موازين القوى فالعاملات غالبا ما يكن في وضع هش من حيث اللغة، الثقافة، الوضع القانوني، ما يجعلهن عرضة للاستغلال، لكن بعضهن قد يرد بعنف مدفوع بالقهر أو الدفاع، ناهيك بغياب الإطار القانوني ليحمي الطرفين فنظام الكفالة كما سبق وذكرنا يعامل العاملة كـ"ملك" لصاحب العمل، ما يفقدها صفة العامل القانوني، ويحرمها من الحماية، وأخيراً ضعف المتابعة من السفارات أو الجهات المختصة ما يزيد من الشعور بعدم الأمان لدى الطرفين.
العلاقة بين العاملات المنزليات والأسر في لبنان يجب أن تبنى على الاحترام المتبادل والعدالة، فالعنف، سواء كان صادرا من الأسرة أو من العاملة، هو نتيجة خلل اجتماعي ونفسي وقانوني، لذا لا بد من العمل على إلغاء نظام الكفالة واستبداله بعقود عمل تحفظ الحقوق للطرفين، تشديد الرقابة على مكاتب الاستقدام ومعاقبة من يثبت تورطهم في سوء المعاملة أو تضليل الأسر والعاملات، تفعيل آلية الشكاوى بشكل يضمن سرية العاملة وأمنها، ويمنع الانتقام منها، إضافة إلى توفير مساحات دعم نفسي واجتماعي لكل من العاملات والأسر، وحملات توعية إعلامية لمناهضة التمييز والتثقيف حول الحقوق والواجبات المتبادلة.
وكشفت الحرب "الإسرائيليّة" الأخيرة على لبنان بين عامي 2024-2025 هشاشة وضع العاملات الأجنبيات في لبنان، إذ تبين أن عشرات العاملات تركن في الشارع ولم تتحمل أي جهة رسمية مسؤولية حمايتهن، فتحركت بعض الجمعيات المدنية والمبادرات الفردية من أجل تأمين مراكز إيواء لهن أو مساعدتهن للعودة إلى بلدانهن
رئيسة الشؤون القانونية والمناصرة في قسم مناهضة الاتجار بالبشر في منظمة كفى المحامية موهانا اسحق أكدت، أنهم تلقوا حوالى 19 حالة من العاملات الأجنبيات اللواتيلا يحتجن إلى مساعدة خلال الحرب وهم على الشكل التالي: 6حالات تُركن أمام السفارات والقنصليات فجأة، 8 حالات تركن في الشوارع بعد الطلب منهن مغادرة المنزل، حالة واحدة تركها أصحاب المنزل في مكتب التوظيف، حالة واحدة احتجزت داخل مكتب، حالتان تركتا بعد أن غادر أصحاب المنزل إلى خارج لبنانن وحالة واحدة كانت خارج المنزل وعند عودتها اكتشفت أن المنزل قد قصف وأصحاب المنزل تركوه وغادروا من دون تأمين مأوى لها.
وقد سبق أن تركت مئات منهن في الشوارع أثناء حرب تموز 2006، وتكرر الأمر ذاته خلال جائحة "كوفيد -19"، وانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020.
ووفقا لـ "المنظمة الدولية للهجرة" ( IOM)، "كان يقيم في لبنان قبل الأزمة أكثر من 175ألف مهاجر ينتمون إلى 98 جنسية مختلفة، وكانت الجالية الأثيوبية هي الأكبر (38 %) يليها البنغلادشية (21 %) ومن ثم السودانية (9 %) والفلبينية (7 %) والمصرية (6 %)، وكانت العاملات المنزليات تشكل النسبة الكبرى من المهاجرين حيث يتجاوز عددهن 70 % من إجمالي المهاجرين.
ربى أبو فاضل - الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|