الصحافة

السلام الاستراتيجي، ولم لا؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

يشهد الشرق الأوسط تحوّلاً استثنائياً يعيد رسم خطوط الجغرافيا السياسية، ليس فقط عبر إعادة تنظيم التحالفات، بل من خلال تغيّر جذري في أولويات الدول والشعوب. اتفاقيات إبراهام، التي انطلقت بشجاعة من الإمارات والبحرين، قبل أن تلتحق بها المغرب والسودان، لم تكن مجرد مبادرة دبلوماسية عابرة، بل تعبير صريح عن رؤية جديدة قادها زعماء أدركوا أن الحروب لا تصنع المستقبل، وأن التعاون لا التناحر هو مفتاح الاستقرار. هذه الاتفاقيات هي في جوهرها دعوة مفتوحة إلى شرق أوسط مختلف، شرق أوسط يراهن على النمو، لا على السلاح؛ على العلم، لا على الحصار؛ على بناء الجسور، لا على حفر الأنفاق. إسرائيل، التي طالما وُصفت بالعنصر الغريب، بات يُنظر اليها اليوم، ونظراً لتقدمها في مجالات الدفاع، والأمن المائي، والزراعة، والابتكار، كشريك استراتيجي قادر على المساهمة بتغيير مستقبل المنطقة نحو إزدهار مستدام طويل الأمد.

ما يجري اليوم في الشرق الأوسط ليس تسوية سطحية، بل تحول حقيقي من ثقافة المواجهة إلى ثقافة المصالح المتبادلة. لم يعد هناك متسع للخطابات العاطفية أو لمشاريع الوكالة. الدول التي تفهم أن أمنها ونموها مرهونان بالاستقرار والتكامل، تتحرك بجرأة نحو شراكات تخلق بيئة جماعية للنجاح، والواقع يقول إن إسرائيل هي أحد ركائز هذه البيئة الجديدة، لا بسبب عواطف سياسية، بل لأنها تمتلك ما تحتاجه دول المنطقة في مجالات حساسة وأساسية.

لقد فهمت دول المنطقة، كلٌ بطريقتها، أن مستقبل الأجيال القادمة لا يمكن أن يُبنى على تراكمات الماضي، وأن العداء المستمر لا ينتج إلا الجمود. فالإمارات العربية المتحدة، لم تتنازل عن مواقفها، بل أعادت تموضعها على أساس واقعي يُفضّل الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا والتجارة والأمن الغذائي والسيبراني، بدلاً من الغرق في نزاعات لا أفق لها. البحرين، دولة صغيرة بحسابات الجغرافيا، لكنها كبيرة في قرارات السيادة، تبنّت هذا النهج بدافع تحصين أمنها وفتح أفق اقتصادي أكثر تنوعاً. المغرب رأى في الاتفاقات فرصة استراتيجية لتحسين موقعه الدولي وتسريع نموه الداخلي، بينما اختار السودان المسار ذاته بحثاً عن استقرار سياسي واقتصادي في مرحلة دقيقة من تاريخه.

النجم اليوم هو سوريا التي اختارت مساراً مختلفاً متناغماً مع رؤية المملكة العربية السعودية وبرعايتها فُتحَ باب واشنطن أمام رئيسها أحمد الشرع، الذي تلقّف الفرصة وفهم المتغيرات فأطلق مباحثات سلام مع إسرائيل برعاية ومواكبة أميركية وسعودية. القيادة السورية، رغم حداثتها، تتحرك بسرعة مدفوعة بحسابات واضحة، فهي اختارت طريق الشراكة الواقعية والخروج من العزلة، إعادة بناء الدولة، وتأمين موارد للتعافي الاقتصادي. هذا التوجّه ليس انفصاماً عن تاريخ البلاد، بل قرار استراتيجي يتمخض عن إدراك أن التحالف مع أي محور عقائدي لا يحقق أهداف الدولة.

بينما تتقدم دول نحو التعاون، تترنح قوى الممانعة في ميادين الهزيمة. حماس، التي فشلت عسكرياً وسياسياً، قادت غزة إلى الهاوية باسم "المقاومة"، بعدما تحولت إلى رهينة بيد طهران. أما حزب الله، الذي يختبئ خلف سلاحه في لبنان، فقد خسر كل ما تبقى من شرعيته في الداخل والخارج، وصار عبئاً على بيئته الحاضنة والدولة. الضربات المتكررة التي تلقاها هذان التنظيمان، سواء ميدانياً أو سياسياً، كشفت أن ما يسمى بمحور "الممانعة" هش، متآكل، ومفكك. إيران، التي كانت تموّل وتوجّه وتدير هذا المحور، تخوض اليوم معركة بقاء داخلية، وتواجه عزلة خارجية، فيما حلفاؤها يتساقطون واحداً تلو الآخر.

وسط هذا الحراك الإقليمي الهائل، يبقى لبنان في سبات عميق. يد عربية وأميركية ممدودة لإنقاذه، لكنه لا يتحرك. مبادرات دولية لإنعاش اقتصاده، لكنه يرفض. دعم لإعادة بناء مؤسساته، فيقابله بالإنكار. وحده بين دول المنطقة، لا يزال لبنان أسير قرارات جماعة مسلحة تهيمن بالقوّة على قرار الدولة، وتمنع التوافق، وتغلق الأبواب أمام أي انفتاح. اللبنانيون يدفعون الثمن يوماً بعد يوم، بينما الطبقة السياسية تتواطأ بالصمت أو التخبط، وتستمر في تقاعسها غير المفهوم عن اللحاق بركب المنطقة. وبينما تستعد دول للإقلاع نحو المستقبل، يبقى لبنان عالقاً خارج التاريخ والجغرافيا والفرص.

السلام الذي يُبنى اليوم ليس على النسيان، بل على الوعي. ليس على التنازل، بل على تبادل المصالح. من يريد مستقبلاً لأولاده، لا يمكنه أن يراهن على ميليشيا. من يريد سيادة بلده، لا يتحالف مع من يحتكر السلاح. ومن يريد اقتصاداً قوياً، لا يغلق الأبواب أمام شراكات إقليمية ودولية جدية.

الهزائم العسكرية لحماس وحزب الله، وتفكك المحور الإيراني، كلها مؤشرات على أن معادلة الصراع القديم لم تعد قابلة للاستمرار. في المقابل، فإن اليد الأميركية والعربية الممدودة نحو الشراكة من الخليج إلى شمال أفريقيا، ومن الأردن إلى مصر، تشير إلى وعي جماعي جديد، أن معركة الوجود هي معركة بناء، لا تدمير. في هذا المستقبل، لا مكان لخاطفي الرهائن أو معرقلي الاستقرار باسم الأيديولوجيا، بل للشركاء الذين يؤمنون بالحياة والنمو والاستقرار.

الشراكة الجديدة لا تطلب من أحد التنازل عن هويته أو مصالحه، بل تتطلب فقط أن يكون هناك قرار سيادي، واقعي، يستوعب أين تتجه المنطقة، وأين تُصنع فرص الغد. لبنان، تحديداً، بحاجة إلى قرار واضح، هل يريد أن يكون ضمن الشرق الأوسط الجديد، أم يختار عن وعي أن يبقى في العزلة والفقر والانهيار؟ اليد ممدودة، والفرص موجودة، ولكن النافذة لن تبقى مفتوحة إلى الأبد وصبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب والدول الصديقة بدأ ينفذ.

اليسا الهـاشم- أخبار اليوم

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا