محنة السويداء

أن تكون منطقة حساسة بين صعوبتين في زمنٍ يشهد تجاذبات دولية وإقليمية مُتشعبة، ليست مسألة سهلة أو بسيطة، وهو ما ينطبق اليوم على المحنة التي تعيشها محافظة السويداء في جنوب سوريا، حيث لا قدرة للموحدين المسلمين الدروز على التعايش مع الصعوبات الاستراتيجية الناتجة عن الأطماع الإسرائيلية وعن لُعبة الأمَّم، كما أن الاستسلام للواقع المؤلِم والمُذل الذي يتعارض مع قيمهم ومصالحهم؛ غير وارد في قاموسهم مهما كانت التضحيات.
تقع السويداء اليوم على فالق التحولات الكبرى في المنطقة، فهي من جهة مُستهدفة من المُتطرفين والمُنحرفين الذين يتطلعون إلى تطويع كافة المكونات السورية المعارضة للتوجهات الأصولية والأوتوقراطية، وتتطلع إسرائيل من جهة ثانية إلى استخدامها كحلقة من حلقات الإطباق على المنطقة العربية، وتنفيذ مشروعها التفتيتي الذي يستند على إنشاء كيانات صغيرة ضعيفة محيطة بها، تتناحر في ما بينها، وتشكل لها شبكة أمان.
إسرائيل تستدرج الحكومة السورية الجديدة إلى مستنقع الأخطاء القاتلة لتستفيد من هذه الأخطاء للترويج لتدخلاتها العدوانية تحت غطاءٍ إنساني، بينما الإدارة الجديدة في دمشق تحاول الاستثمار السياسي والأمني الصلف بالسويداء، من خلال تنفيذ رؤى بعض المتطرفين من فاقدي البصيرة، لتحويل السويداء إلى مضرب مثل عن قوة هذه الإدارة التي لا يمكن لأي كان مواجهتها أو تعديل برامجها، لا في الجنوب ولا في الشمال ولا في الساحل، معتقدين أن "تأديب السويداء" (وفق توصيف بعض المغرورين) سيُخيف باقي المكونات المعارضة لسياسة الحكومة الجديدة، وسيجعل الأكراد والعلويين والمسيحيين والإسماعيليين والمجتمع المدني السوري، ينصاعون للتوجهات "الإسلامية" الراديكالية التي يعتمدها غالبية من المؤثرين في القرار السوري الجديد.
عاشت السويداء بغالبية سكانها من الموحدين الدروز ومن المسيحيين ومن البدو أياماً صعبة جداً، وكانت حلقات المحنة الدامية مؤلمة، ومشاهد قتل المدنيين على يد رجال محسوبين على الحكومة غاية في البشاعة، والمهاجمون من رجال العشائر، أو المقربون من الحكومة، خسروا أعداداً كبيرة من الرجال. فتحشيد العشائر ضد مكوِّن كان على الدوام صديقاً لهم ومدافعاً عن الخط العربي الذي يحرصون عليه، خطأً جسيماً، وطريقة تحلّل بعض وجهاء السويداء من الاتفاق الذي حصل على دخول القوات الحكومية سلمياً إلى السويداء في 13 تموز/ يوليو، كان خطأً جسيماً أيضاً، ودفع أبرياء ثمن هذه الأخطاء، وغلبت لغة القتل والإجرام على لغة العقل والحِكمة، وحصل استبسال دفاعي منقطع النظير من أهل المدينة، بينما تجاوز المهاجمون كل أدبيات الحرب وقواعدها، وفي المكان الخطأ، أو على ساحة الأصدقاء. وتفرَّجت إسرائيل على المجازر التي حصلت بين الأشقاء، بينما هي وعدت زوراً بعض الموهومين من الدروز بمساعدتهم، لكن سموم المساعدة ظهرت بعد "خراب البصرة" (كتعبير مجازي مُستحدم) أو بعد أن سالت الدماء على ضفتي النزال.
عاش الموحدون الدروز مِحنة موصوفة خلال أسبوعٍ كامل، فمن كان في الميدان تألَّم من شدَّة المظالم والقتل والحصار، ومن هو بعيد تألَّم معنوياً لأن إخوانه وأقاربه يُذبحون ويجوعون على يد من يعتبرهم أشقاء في العروبة والإسلام. والهفوات السياسية والإعلامية كانت مؤلِمة أيضاً، لأنها عمَّمت على غالبية السوريين والعشائر معلومات مغلوطة، تصوِّر لهم الدروز كأنهم مجموعة من المتمرِّدين الذين يستهدفون الكيان ووحدته، بينما الدروز كما المسيحيين والعلويين والإسماعيليين وغالبية من الأكراد وكُثُر من السُنَّة، يتطلعون للعيش في وطن عصريٍ متنوع، يسوده القانون الذي غُيِّب على مدى أكثر من 50 عاماً، ولا يقبلون العيش تحت سلطة مجموعات مُتشدِّدة، تتلطَّى تحت عباءة الإسلام، بينما الإسلام دين العقل والسلام والتسامُح، لا يُقرّ بغالبية ما يقومون به.
من حق الموحدين الدروز الخشية من المؤشرات المُقلقة التي ظهرت في عدد من المرافق والمناطق، وبعض الأفعال تتشابه مع أعمال المُطاوعين المتفلتين. وآخر هذه المؤشرات: أقفال مراكز ثقافية في دمشق، وتهديد المطاعم والمراكز السياحية، وتأسيس مدارس لتعليم "المناهج الشرعية" بالفريضة، كما جاء في قرار وزارة الأوقاف رقم 1701 تاريخ 20/7/2025 الذي نصَّ على إنشاء ثانوية في مدينة السليمانية (عاصمة الإسماعيليين) وفي التضييق على المسيحيين والعلويين. لكن بعض من النافذين الدروز بالغوا في استثمار هذه المخاوف المشروعة، إلى حد طلب الحمايات الخارجية، ومن بينها طلب تدخُل رئيس وزراء إسرائيلي الذي يرتكب المجازر بحق العرب والمسلمين، وهو ما ساعد في تفاقُم التباعد والخصام.
مهما كبُرت التضحيات وتعرَّجت المسالك، لا حل سوى بالتسوية والمصالحة للخروج من المِحنة. ومن الطبيعي مطالبة الحكومة في دمشق بتحمُّل المسؤولية، وفتح تحقيق بالارتكابات الشنيعة التي حصلت، وعدم نكران المخاوف الموجودة عند مكونات سورية، وعليها مسؤولية فتح حوار جدي يُبدِّد الشكوك، ويؤسس لعهدٍ جديد. بينما مطلوب من بعض المُتنفذين في السويداء موقف واضح بعدم المراهنة على الحماية الخارجية ولا على تدخُل إسرائيل.
الانباء
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|