قائد عسكري إسرائيلي: كان لدينا معلومات استخباراتية عن نصرالله لا يمكن تخيّلها
العراق، سوريا، لبنان بلا أقليات: خريطة دولية لأحادية صارخة؟
كل يوم يمرّ على المنطقة الجغرافية الممتدة من العراق إلى فلسطين المحتلة، مروراً بسوريا ولبنان، في حمأة الأحداث والتطورات الخطرة التي تعصف بها بقوة، يتأكّد أنّها على طريق التحوّل إلى بلدان تحكمها الأحادية المطلقة، من خلال الخطط الناشطة دولياً وإقليمياً لاقتلاع الأقليات الدينية وتوزيعها على بلدان العالم.
وهناك دول شاخت مجتمعاتها، وهي مستعدة لاستقبال من يعتزم من الأقليات الدينية والعرقية مغادرة وطنه الأم، بعدما نَبَت به أرضه، وسُدّت في وجهه أبواب الرزق وبات يعامل كمواطن مقيم من الدرجة الثانية، وليس كمواطن بلد أصيل تتوافر فيه كل مقومات المواطنة، وهو مكوّن أساس في دولته، ووجوده يرقى إلى العصور المسيحية الأولى وما قبل.
كانت هذه المنطقة الجغرافية تتميز بالتنوع الديني والإتني، وكان قاطنوها يبنون معاً ثقافة حياة واحدة، ويقدّمون المشتركات على عناصر التباين. ولكن النزاعات والفتن والحروب الصغيرة والكبيرة التي حصلت، والدور السلبي للعرب تجاه الدول والأنظمة الغربية بسبب مواقفها السلبية من نشوء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية، الذي تسبّب بـ«نقزة» وبغضب كان لهما الأثر السيئ على الأقليات، ولاسيما منها المسيحيون. ولم يؤدِ الغرب بإستثناء الفاتيكان وبمقدار معيّن فرنسا، وبعض بيانات حفظ ماء الوجه من دول مختلفة لدى حصول مذابح أو مضايقات تفوق حدّ الوصف، أي دور في حماية التنوع. في لبنان، وعندما كانت الحرب محتدمة وبلغت «القوات الفلسطينية» و«قوات الحركة الوطنية» أعالي المتن الشمالي، وهدّد الزعيم كمال جنبلاط بأنّه سيحتل جونيه، وسيعرج على بكفيا في طريقه إليها، جاء موفد الرئيس الأميركي جيرالد فورد السفير دين براون على عجلة لاستكشاف الوضع ميدانياً، وبحث في السابع من أيار 1976 مع الرئيس سليمان فرنجية في مقر إقامته الموقت في بلدة الكفور - كسروان الفتوح، في حضور أركان «الجبهة اللبنانية» إمكان القيام بعملية ترحيل جماعية للمسيحيين من لبنان ونقلهم إلى ولاية نيفادا حيث يجدون الملاذ آلامن، وفرص العمل والمستقبل الجيد. وردّ الرئيس فرنجية بعدما خيّم الوجوم على وجوه الحاضرين: «لا نقبل هذا العرض، وسنظل نقاوم حتى آخر نقطة دم في أوردتنا: لكل من الرئيس شمعون والشيخ بيار وانا ولدان، وقدس الأباتي عشرات الرهبان، ولن نبارح أرضنا إلاً جثثاً». هذا الكلام سمع براون مثله وأكثر من قائد «القوات اللبنانية» حينذاك الشيخ بشيرالجميل بعد يومين من لقائه فرنجية.
لن نتطرق إلى تناقص عدد المسيحيين بسبب الحرب التي واجهوها متّحدين، ولا إلى سوء إدارة الخلاف في ما بينهم الذي أدّى الى صدامات داخلية دفعوا ثمنها هجرة كثيفة، وكان آخرها «حرب الالغاء»، ولا إلى النتائج الكارثية عليهم التي رتبتها حرب الجبل. فهي أسباب ذاتية يتحمّلون مسؤوليتها بالدرجة الأولى. ولكن الواقع الراهن - وفي ضوء الإحصاءات المتوافرة وتصاعد التطرّف وامتداده، واستمرار تدفق هجرة الشباب منهم بفعل الضائقة الاقتصادية وتراجع الإنجاب - يتسبّب بأعطاب ديموغرافية تنعكس سلباً على وجودهم الفاعل ودورهم المميز في وطن الارز، فيما تخلو الأسلاك الأمنية والعسكرية والأجهزة الإدارية منهم، بحيث بات حضورهم فيها رمزياً.
وفي العراق كان الوجود المسيحي ناشطاً بكل وجوهه، وفي إحدى زياراتي لبغداد في العام 1986 زمن صدام حسين، التقيت بطريرك الكلدان في حينه روفائيل الأول بيداويد، وأجريت معه حديثاً صحافياً، كشف فيه أنّ عدد المسيحيين في بلاد الرافدين يربو على المليونين، وأنّهم يعيشون مواطنتهم بكاملها من دون مضايقة. وبعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، كان المسيحيون في هذا البلد الضحية الأولى وتعرّضوا لسلسلة أحداث دموية على يد «تنظيم الدولة الاسلامية» (داعش) في بغداد ، البصرة، الموصل، وسواها، فهاجر منهم مئات آلالاف إلى الولايات المتحدة الأميركية ولندن والبلدان الاسكندنافية، وأستراليا وكندا، وسواها. وتناقص عددهم إلى ما يقارب الـ 250 الف نسمة، منهم 200 ألف يعيشون في سهل نينوى في ظل سلطة إقليم كردستان.
أما في سوريا، فإنّ الأوضاع لا تبشّر بأي خير على يد السلطة الجديدة التي نشأت عقب إسقاط نظام بشار الاسد. ولم ينج المسيحيون في الساحل السوري، ومحافظة حمص، من المذابح التي ارتُكبت، وإن كان عدد الضحايا من بينهم أقل من تلك التي وقعت في صفوف العلويين، والدروز في السويداء والشيعة في منطقة السيدة زينب، حي الأمين ومنطقة القصير. وذلك عدا الحوادث المتفرقة في دمشق والاستفزازات التي تعرّضوا لها في باب توما.
وتشكّك مصادر إكليريكية بنيات الرئيس أحمد الشرع الذي لم يترجم وعوده باحترام التنوع، مبدياً العجز عن ضبط الجماعات المتفلتة. على أنّ المسيحيين يتحفظون على أدبيات النظام الجديد، بأنّ المسيحيين والأقليات هم في ذمّة الدولة وحمايتها، وهي أدبيات تتنافى مع المواطنة التي هي حق وليست منة. وتفيد معلومات خاصة، أنّ ضغوطاً كبيرة مورست على الشرع للكف عن مضايقة المسيحيين، ما أدّى إلى نوع من الارتياح الموقت في أوساطهم من دون أن يُسقطوا موجبات الحذر، لأنّ الأوضاع في سوريا لا تزال في حال من مدّ وجزر. المصادر الإكليريكية عينها تحدثت عن إنكفاء كبير للمسيحيين، وتحرك كثيف لهم في اتجاه السفارات الغربية في دمشق أو في بيروت وعمان، للحصول على تأشيرات مغادرة إلى بلدان الهجرة الدائمة.
لم يقتصر الأمر على مضايقة المسيحيين، بل تعداه إلى استهداف الدروز في السويداء، حيث كانوا عرضة لحرب ضروس واجهها هؤلاء بشجاعة، ولو كانت كلفتها عليهم غالية جداً. وإنّ تورط الدولة السورية وتغطيتها للعشائر في جنوب البلاد كانا مَدرجة لتدخّل إسرائيلي، من شأن استمراره أن يوجد واقعاً لا ينسجم مع وحدة سوريا، وبؤرة توتر دائمة.
على أنّ شيعة سوريا غادر أكثرهم إلى لبنان والعراق، وخلت مدنهم من اي وجود ملموس لهم.
أما في فلسطين المحتلة، فيكاد لا يتجاوز عدد المسيحيين المتبقين فيها سواء في الضفة أو القطاع، أو القدس، الواحد في المئة، بسبب الضغط الإسرائيلي وتدابير سلطات الاحتلال، ونشاط الجماعات المسيحية المتصهينة التي تصادر أراضي وتضع اليد على أديرة، إمعاناً منها في نزع الهوية العربية عمّن تبقّى من مسيحيين في فلسطين.
مما تقدّم يمكن استنتاج آلاتي:
1- إنّ المتغيّرات الجيوسياسية لم تقدّم ضمانات للحفاظ على التنوع الديني، والتزامات عملية بالحفاظ على حقوق الإنسان على ما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة.
2- هناك شكوك واضحة بأنّ الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً، باستثناء الفاتيكان، تعبأ بمصير الأقليات، وإن اهتمت فلاستخدامها حجارة شطرنج على رقعة مصالحها الاستراتيجية.
3- إنّ الأنظمة التي تحاول إبراز حرصها على رعاية التعددية الدينية والإتنية، إنما تفعل ذلك على سبيل الدعاية والديكور، لأنّها لم تقدّم أدلة تثبت عكس ذلك.
4- بات الخوف متأصلاً في نفوس أتباع الأقليات، الذين باتوا يرفضون تصديق شعارات الطمأنينة التي تزين لهم «محاسن» الوضع الجديد عقب سقوط أي نظام ديكتاتوري. وهناك من بين هؤلاء من يقول إنّ الأقليات كانت أفضل حالاً في ظل الأنظمة التي تهاوت.
5- إنّ إسرائيل ترى في القضاء على الأقليات مكسباً، بل ورقة للاستثمار الإنساني والسياسي تجاه المجتمع الدولي وحضّه على زيادة الدعم لها، لتكون صاحبة اليد الطولى في المنطقة، وتأييد سياستها القائمة على تزنير حدودها بمناطق محروقة، خصوصاً في سوريا ولبنان، لتطويق أي خطر قد يطاولها. وهي بدأت خطتها في غزة، فيما تستكمل سياسة «الترانسفير» التي لم تتخلّ عنها يوماً بتهجير فلسطينيي غزة إلى مصر والضفة إلى الاردن وعرب الـ48 إلى سوريا ولبنان.
6- بعد تهجير المسيحيين والأزيديين في بلاد الرافدين، ثمة من يروّج لـ«سيناريو» يقضي بتهجير الشيعة من لبنان إلى العراق. وقد يكون هذا الأمر فكرة هيولية أو مقترحاً تمّ بحثه في دوائر مغلقة، أو من قبيل التهويل، لكنه يراكم مخاوف هؤلاء ويزيدهم حذراً واستشراساً، ويدفع بهم إلى دائرة الخوف من آلاتي والرفض. وهذا من شأنه أن يرتب تداعيات خطيرة.
على انّ كل هذا يتمّ وسط صمت عربي رسمي ونخبوي مستغرب، ويطرح اكثر من علامة استفهام. وكذلك في ظل انكفاء غربي مريب حيال مصير الأقليات في الشرق العربي خصوصاً، والشرق الأوسط عموماً.
فهل تختفي الأقليات كحضور مميز، له دوره على خريطة الشرق الأوسط؟ وهل تضمحل حتى الحدود الدنيا من الوجود المادي في العراق وسوريا ولبنان؟
سؤال يبقى في ضمير الغيب، تحمل الإجابة عنه الأيام آلاتية التي - بحسب المعاينة والتدقيق والتحليل- لن تكون وردية.
جوزف القصيبي - الجمهورية
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|