هل يشكّل صعود اليورو تهديداً لهيمنة الدولار؟
في ظل التوترات التجارية المتزايدة من واشنطن، عاد الحديث مجدداً عن إمكان صعود اليورو ليصبح بديلاً عالمياً من الدولار الأميركي. فقد شهدت العملة الأوروبية الموحدة ارتفاعاً في قيمتها، في وقت بدأ فيه المستثمرون حول العالم يبحثون عن بدائل أكثر استقراراً في بيئة مالية مضطربة، خصوصاً بعد عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وهجماته على الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
هذا التوجّه يقوده حراك أوروبي متنامٍ يسعى لدفع اليورو نحو لعب دور عالمي أكبر، لكن الطموحات تصطدم بمجموعة من التحديات المتجذّرة، أبرزها الانقسامات الداخلية داخل منطقة اليورو، وتعقيد مسار التكامل الاقتصادي بين دول الاتحاد.
ويرى الخبراء أن تعزيز تكامل أسواق رأس المال داخل الاتحاد الأوروبي يُعد أحد المفاتيح الأساسية لتحقيق هذا التحوّل. إذ من شأن سوق مالية موحدة وعميقة أن تُشجع المستثمرين على الاحتفاظ بالأصول المقوّمة باليورو، كما أن إصدار ديون حكومية مشتركة قد يوفّر بديلاً أوروبياً حقيقياً من سندات الخزانة الأميركية كملاذ آمن.
غير أن مشاريع التكامل المالي الأوروبية، رغم أهميتها، لا تزال تواجه عراقيل مزمنة، بحيث أخفقت أكثر من 100 مبادرة منذ عام 2015، بحسب ما أشارت إليه كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي.
التفاؤل الأوروبي، رغم قوته، لم يترجم حتى الآن إلى تغيير كبير على أرض الواقع. فقد أظهر تقرير للبنك المركزي الأوروبي أن نسبة استخدام اليورو في المعاملات الدولية بقيت عند 19% في 2024، بينما تمثل حصة اليورو من احتياطيات النقد الأجنبي نحو 20% فقط، أي نحو ثلث ما يحوزه الدولار الأميركي.
لكن الزعزعة التي يشهدها الاقتصاد الأميركي، نتيجة السياسات الحمائية لترمب، دفعت بعض المستثمرين إلى إعادة تقييم مواقفهم. فقد بدأ يُنظر إلى السندات الأميركية، التي كانت تُعتبر سابقًا الملاذ الآمن الأوّل، على أنها أقل استقراراً، وسط ما يُوصف بأنه “اضطراب في سوق الخزانة”.
على الجانب الأوروبي، شكّلت السياسة المالية الألمانية الجديدة الأكثر مرونة نقطة تحول بارزة، عزّزت الآمال بعودة النمو ورفعت من جاذبية اليورو. كما أن تغير مواقف المستثمرين من دول تقليدية داعمة للدولار، مثل ألمانيا وسويسرا والنمسا، يشير إلى تحوّل حقيقي في المزاج العام.
في هذا السياق، دعت لاغارد إلى استغلال اللحظة، محذّرة من تفويت فرصة صعود اليورو. وأكدت أن البنك المركزي الأوروبي يعمل على تطوير “يورو رقمي”، في حين يقع على عاتق القادة السياسيين في الاتحاد الأوروبي اتخاذ خطوات أكثر جرأة.
أبرز العقبات أمام تحوّل اليورو إلى عملة دولية حقيقية يتمثل في ضعف السيولة في أسواق السندات المقومة باليورو، وتجزئة السوق المالية الأوروبية. إذ لا تمثل أسواق السندات مجتمعةً سوى ثلث حجم السوق الأميركية، كما أن سوق رأس المال الاستثمارية الأوروبية لاتزال متأخرة.
الدعوات تتزايد نحو إنشاء سوق موحدة لرأس المال، تمنح الشركات الأوروبية مصادر تمويل أوسع، وتُشجع على الاستثمارات عبر الحدود. إلا أن “المصالح الوطنية” تبقى عائقاً أساسياً، خصوصاً من جانب دول صغيرة مثل أيرلندا واللوكسمبورغ التي تسعى لحماية مراكزها المالية، إضافة إلى تأثير جماعات الضغط.
واحدة من أكثر الملفات جدلاً في هذا السياق هي مسألة التمويل المشترك للسندات الحكومية. الدول الغنية مثل ألمانيا لا تزال تعارض بشدة فكرة تمويل ديون دول مثقلة مثل إيطاليا، مما يؤدي إلى تقييد إمكانات بناء سوق سندات موحدة فعالة.
وقد أشارت لاغارد إلى أن السندات ذات التصنيف الائتماني المرتفع AA)فما فوق) تمثل أقل من 50% من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي، مقارنة بأكثر من 100% في الولايات المتحدة، وهو ما يضعف الثقة الدولية باليورو كعملة استقرار.
من هذا المنطلق، دعت لاغارد إلى إعادة فتح النقاش حول تمويل السلع العامة الأوروبية المشتركة، مثل الدفاع، مشيرة إلى أن تجربة “صندوق التعافي الأوروبي” عام 2020 يمكن أن تشكل سابقة ناجحة. كما تأمل الأوساط الأوروبية أن توفر خطة إعادة تسليح أوروبا، التي تهدف لتعبئة 800 مليار يورو، دفعة جديدة نحو إصدار مشترك للسندات، ما يعزز من سيولة السوق الأوروبية.
رغم كل هذه المبادرات، لا تزال الشكوك قائمة بشأن جدية التنفيذ. فالتجربة الأوروبية أثبتت في كثير من الأحيان ميلاً إلى الوعد دون الإنجاز، ولا تزال قطاعات داخل ألمانيا وغيرها متحفظة عن أي خطوات تؤدي إلى تقاسم الديون أو المخاطر المالية على المستوى القاري.
في نهاية المطاف، يبقى مستقبل اليورو كعملة دولية مرتبطاً بقدرة أوروبا على اتخاذ قرارات سياسية جريئة وتجاوز حساباتها الضيقة. ومع تنامي الحاجة العالمية إلى بدائل موثوقة من الدولار الأميركي، فإن الكرة باتت في الملعب الأوروبي: فإما أن تنتهز اللحظة، وإما أن تخسر فرصة نادرة لتغيير قواعد اللعبة المالية العالمية.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|