شيخ العقل: مواقف جنبلاط أبعد ما تكون عن خيانة التاريخ والهوية
المجتمع الشيعي بين الاعتدال والانغلاق: النمطية "الولائية" تسود
يطالعنا في كل فصل صيف ومع بداية فعالياته من نشاطات وحفلات وموسم سباحة، شروط هنا ومنع هناك، ورفض لبوركيني هنا، وحجاب هناك ولباس البحر في مكان آخر، وكأن لبنان أضحى مجموعة كانتونات لمجموعات تفرض فيها أساليبها وأنماطها، دون الأخذ بالاعتبار مفهوم احترام الخصوصية الشخصية وعدم تعميمها.
وإذا كان منع دخول المحجبات لبعض المسابح الخاصة فعلًا عنصريًا يستهدف أفرادًا يتمتعون بخصوصية معينة، فإن فرض نمطية خاصة على مجتمع بكامله تحت حجة الأكثرية هو عملية ممنهجة لتدجين وتنميط هذا المجتمع بمفاهيم وأدبيات تفرضها هذه المجموعة أو الجماعة، وتجعل من أبناء هذا المجتمع أسرى لهذه النمطية عن رضى أو مكرهين، وهذا من أخطر الأمور التي تهدد المجتمع اللبناني وتماسكه.
ولعل سرديات المنع والقمع التي حدثت في المناطق الشيعية من رفض للباس البحر، ومنع النزهات المشتركة للجنسَين، وإقفال محال الكحول وسحب رخصها، والشروط البلدية لصالات الألعاب وتحديد شكل اللباس، وغيرها من أساليب المنع، وعرائض الرفض والفرض و"فورات" المشايخ الحريصة على منع المنكرات ولو بالغصب، أظهرت هذا المجتمع، كمجتمع منعزل يرفض التنوع، ويسعى للتعميم، ويسحق الاختلاف في سبيل النمطية السائدة، وهو ما يتعارض مع روحية هذا المجتمع وحيويته المتجسدة في مشاركة أبنائه بشكل فعال وأساسي في مختلف فعاليات وأنشطة الترفيه في مختلف المناطق اللبنانية، كلاجئين خارجين من نمطية الحزن القهر.
المجتمع الشيعي من التهميش إلى الحيوية
لا شك أنه مع إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، دخل المجتمع الشيعي مرحلة جديدة ضمن إطار الدولة الفتية، فبعد قرون من الاضطهاد والتهميش والحرمان، أضحى اللبنانيون الشيعة يتمتعون بحقوق ويتوقون للقيام بواجباتهم تجاه الوطن الذي اعترف بهم وأخرجهم من الإنكار الذي كانوا يتعرضون له أيام العثمانيين إلى رحاب المواطنة والمساواة، فبحسب كتاب "الشيعة في لبنان طقوسًا ومجتمعًا وثقافة: من الحيوية إلى النمط الموجه" الصادر عن "أمم للتوثيق والأبحاث" عام 2023، انخرط اللبنانيون الشيعة في كافة مضامر الحياة الاجتماعية والثقافية في مجال الشعر والأدب والفن بمختلف أنواعه من مسرح وغناء ورسم وتمثيل وسينما حيث كانت دور السينما موجودة في المناطق الشيعية شأنها شأن سائر المناطق اللبنانية في خمسينات وستينات القرن العشرين. فعلى سبيل المثال، كانت السينما في النبطيَّة تُعرَضُ بدايةً في الهواء الطَّلْقِ على سطحِ مبنى علي حسين الصبّاح، إلى أن أنشأ حسيب جابر عام 1943 السينما الأولى فيها باسم "روكسي"، وفي 13 كانون الثاني 1960، دُشِّنَتْ سينما "ريفولي" من قِبَل عادل الصبّاح ويوسف خضرا، وبلغَ عددُ مقاعدِها 523 بين صالة وبلكون، كما كانت فترةُ الستينات مرحلةً ذهبيَّة للسينما في ساحل المتن الجنوبي، فقد أُنشئَتْ في الضاحية الجنوبيَّة لبيروت أولُ سينما، واسمها "راديو" وكانت في برج البراجنة ومالكُها من عائلة فرحات، كما افتُتحَتْ سينما "بالاس" لصاحبها أحمد سنّان وأشِقائه، والد المنتج جمال سنّان، وسينما "دنيا"، وكلها "على خط واحد من عين السكّة إلى الغبيري" التي أقيمَتْ فيها سينما "الأهرام"، وكان في بئر العبد سينما "ساندريلا" وسينما "هيلتون" التي تحوَّلتْ إلى مسرح لفرقة "أبو سليم" وسينما "راديو" وكانت صالاتُها تَشهَدُ حفلاتِ زجلٍ وغناء لمُطربين.
نمطية جماعة الولاية تسود: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مع مجيء السيِّد موسى الصَّدر إلى لبنان عام 1959 بدأتْ تَتبلوَرُ حالةٌ ثقافيَّة إسلاميَّة شيعيَّة بوجهٍ جديد، لها أطُرها الثقافيَّة والفكريَّة المُرتَكِزَة على الأسُُس والمبادئ الدينيَّة للمذهب الشِّيعي، وكانت تأخذ مساحتها في ظل التنوع والحيوية دون أن تستأثر بنمطية معينة، فكان الانفتاح والالتزام متعايشين دون أن يكون هناك فرض لنمطية فكرية أو دينية، ولعل حادثة بائع المثلجات المسيحي في صور خير دليل على هذا التوجه الإسلامي المعتدل، حيث وصل إلى مسامع الإمام الصدر أن بعض أبناء صور الشيعة يقاطعون متجرًا لبيع المثلجات لأن صاحبه مسيحي، فما كان منه إلا أن توجه بعد صلاة الجمعة سيرًا على قدميه إلى متجر المسيحي وطلب صحن بوظة وجلس يتناوله أمام المتجر ليشاهده الجميع.
مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران وبدء مشروع تصدير ثورتها إلى لبنان، ظهرت في الساحة الشيعية نمطية اجتماعية فكرية ثقافية دينية تقوم على رفض كل أنواع الترفيه واعتماد الإطار الديني كركيزة للحالة الاجتماعية في المناطق الشيعية فأضحى لها مُنَظِّروها ومؤسَّساتُها الثقافيَّة وإنتاجُها المتعدِّد من الكتابة إلى المسرح والسينما، وكل ميادين الثقافة والفكر والفنّ. تتداخَل لدى "حزب الله" العناوين وتتماسَك بشكلٍ يَصعُب تفكيكُها، فلا يمكن فَصْل الجانب الاجتماعي لديه عن ذاك الثقافي على اختلاف توجُّهاته من أدبيَّة، فنيَّة وأيديولوجيَّة. بدأ تنميط هذا التوجه الاجتماعي من خلال الدعوات في الجوامع والحسينيات واللقاءات الدينية، ومن خلال الشعارات التي أطلقها "الحزب" كشعار "حجابُكِ، أختي، أغلى من دمي" الذي انتشر في فترةِ الحرب الأهليَّة مُذيَّلًا بتوقيع "وصيَّة شَهيد"، وبعد تمدد "الحزب" وسيطرته على العديد من المناطق بدأت تظهر اللجان الاجتماعية التي تعمل على "الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر" وتعلن الإرشادات والتقيّد بعدة أمور كـ "مراعاة الحشمة في اللباس في حدود المحافظة على الأجواء الإسلامية... والتذكر دائمًا أننا نعيش في مناطق إسلامية ولسنا في بلاد الكفر والشرك"، "عدم القيام بالحفلات المحرّمة... وضرورة التقيد بعدم رفع أصوات الغناء سواء في المنازل أو السيارات وغيرها"، وكان يطلق عليها اسم "لجان إحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
مع نهاية الحرب الأهلية، تمدد "النمط الولائي" فانعدمت الحفلات الفنية في المناطق الشيعية وأقفلت دور السينما فيها، إما رضائيًا أو مكرهة، فأضْحَتْ المناطق الشيعية تلبَسُ لَبُوسَه وتسير وِفْقَ أهوائه، وانغلقت تلك المناطق اجتماعيًا وثقافيًا ضمن ضوابط هذه النمطية وأدبياتها.
بين النمطية والرغبة: لجوء وهجرة
مع تسيّد النمطية "الولائية" المناطق الشيعية، أضحت أساليب الترفيه لدى المجتمع الشيعي خارج مناطقه، وأضحى من يرغب في الترفيه أو العيش وفق "النمطية اللبنانية" مجبرًا على التوجه إلى المناطق اللبنانية الأخرى كلجوء أو نزوح داخلي أو هجرة موقتة، ما ساهم في تفعيل وازدهار السياحة الداخلية، وبالتالي أصبح ظاهرًا أن إرساء نمطيات وبطريقة جبرية وممارسة الترهيب والفرض، تحت حجة الأكثرية وواقع المنطقة وأدبيات المجتمع لا تعمل على الإقناع إنما تشجع على النزوح إلى مناطق أخرى.
لا شك أن النمطية "الولائية" ترسخت في المناطق الشيعية من خلال الهيمنة المطلقة والسيطرة على المجالس المحلية من بلديات وحتى محافظين، وبالتالي أضحت هذه النمطية متجذرة بحكم الأمر والواقع والسلطة الإدارية والمناطقية، ولكن يبقى السؤال، ما هو دور الدولة اللبنانية في الحفاظ على التعدد والتنوع في المناطق وفي العمل على تنويع المناطق ديموغرافيًا بعدما فرزتها الحروب المتتالية؟ وهل يجوز إبقاء مناطق بنمطية محددة منغلقة عن المناطق الأخرى؟ أم يجب خلق مساحات متنوعة في تلك المناطق؟ يبقى السؤال الأساسي، متى تبادر الدولة اللبنانية وإداراتها وأجهزتها إلى معالجة تأثيرات الحرب اللبنانية ونتائجها؟ أم أنها ستبقى تدير الأزمات أو تقف موقف المتفرج؟
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|