باريس – "حزب الله" علاقة الضرورة المريحة إلى متى؟
ما طبيعة العلاقة التي تربط بين باريس و"حزب الله" منذ أعوام؟ والى أي مدى يمكنها أن تبقى على هذا المستوى؟
السؤال بطبيعة الحال يفرضه أمران، الأول أنها علاقة دافئة يُعتدّ بها، والثاني أنها برغم ذلك تحمل في طواياها أن تعود الى سيرتها الأولى من الجفاء والقطيعة تحت وطأة تحوّلات ومستجدات. ولا ريب في أن السؤال الأخير ازداد إلحاحاً في أعقاب ظهور خيارات متضادة بين الجانبين حيال الملف الرئاسي الموضوع حالياً على نار حامية ولا سيما أن المعلومات المتوافرة تتحدث عن أن لعاصمة النور مرشّحاً ترغب في بلوغه قصر بعبدا بالتضافر والتكامل مع آخرين وهو قائد الجيش العماد جوزف عون. والأبعد من ذلك أن ثمة معلومات تتحدث عن أن باريس بصدد حشد الدعم الداخلي والتأييد الخارجي لهذا المرشح لحظة ترى أن الظروف نضجت، فيما لـ"حزب الله" ومن والاه في السياسة مرشحه المعلوم وهو زعيم تيار المردة سليمان فرنجية. وعلى رغم يقين الحزب بهذا الأمر، وعلى رغم شعوره بأن رحلة الانفتاح الفرنسي عليه ستصطدم يوماً ما بجدار مسدود، فإن له (الحزب) فلسفته لها وهي تنطلق من أساسين اثنين:
– أن الحزب يعرب عن ارتياحه لهذه العلاقة ولا يكتم أنه سيعمل على الحفاظ عليها وإطالة عمرها قدر الإمكان.
– إيمانه (الحزب) بأن هذه العلاقة الانفتاحية مصلحة للطرفين.
وفي التفصيل، إن الحزب لا يضيره إطلاقاً أنه فيما معظم #الدول الأوروبية وأميركا تضعه على لوائحها السوداء (كان أولاً جسمه العسكري ولاحقاً صار كل الحزب بكل أجنحته مدرجاً على هذه اللوائح)، تبادر باريس والدول الأوروبية الكبرى الى فتح أبواب الكلام معه. وكانت ذروة الإيحاء بذلك في الزيارة الأولى للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت بعيد انفجار المرفأ في 4 آب حيث عقد لقاءً لافتاً حينها في قصر الصنوبر مع رئيس كتلة نواب الحزب محمد رعد.
واللافت أن باريس مضت قدماً في هذه العلاقة منذ ذلك التاريخ حتى اليوم وهي تصر في هذا السياق على تقديم شواهد توحي بأن "حرارة" هذه العلاقة لم تفتر بعد. وآخر هذه الشواهد الزيارة المفاجئة التي قامت بها السفيرة الفرنسية في بيروت للضاحية الجنوبية حيث حلت ضيفة في أحد مقارّ الحزب والتقت رعد مع آخرين.
يمكن للحزب أن "يباهي" بهذه العلاقة ويستثمر فيها سياسياً، أمام الذين يناصبونه العداء ويسعون دوماً لمحاصرته والذين يعايرونه بأنه موضوع على لوائح الإرهاب ورعاته وأنه استطراداً في وضع المعزول بل هو مصدر خطر على "الكيان" بقطع النظر عن عوائد هذه العلاقة على الحزب نفسه.
لا شك في أن باريس قد سلّفت الثنائي الشيعي وجمهوره "سلفة كبرى" وذلك عندما طرح ماكرون نفسه في أولى زيارتيه لبيروت وتجلى ذلك في حديثه الصريح عن ضرورة البحث عن "عقد سياسي جديد" أو طائف متطوّر ليكون أساس الحكم والإدارة في مقبل الأيام. والمفارقة أن هذا الكرم الفرنسي ورد في سياق ما تراه فرنسا إحدى طرق التحصين للوضع اللبناني والحيلولة دون "زوال الكيان".
وسواء كانت السبل الموضوعية ممهّدة أمام هذا الطرح أو ثمة عقبات تحول دونه فالثابت أنه دغدغ طموحات الشيعية السياسية بركنيها، التي تجاري بالشكوى من طبيعة العقد السياسي الذي أقصاها ضمناً عن القرار الوطني.
واللافت في مداولات الشيعية السياسية الداخلية أنه رغم استشعارها أن باريس قد قطعت لاحقاً دابر الحديث عن العقد السياسي المنشود بقيت الرياض على توجّسها من هذا الطرح في تحرّك سفيرها الأخير تحت عنوان "حماية الطائف ومنع المساس به"، ثمة سعي حثيث لمحو هذه الفكرة من الأذهان وكيّ الوعي الجمعي المستعد للتفاعل معها والبناء عليها.
وإن كانت هذه هي باختصار "العوائد والفوائد" التي يجدها الحزب وقاعدته من وراء هذه العلاقة وهي ليست بالمتواضعة، فإن السؤال الموازي هو: ما العوائد التي ترجوها باريس من مثل هذه العلاقة التي تبدو ضرباً من ضروب المغامرة خصوصاً أنها أتت في لحظة شديدة التعقيد، ومن وراء الإصرار على إطالة عمرها؟
يقدّر مقربون من العقل السياسي العميق للحزب أن مردود هذه العلاقة على باريس ليس بسيطاً بل هو عبارة عن قيمة سياسية مضافة آنية ومستقبلية.
ليس جديداً أن فرنسا – ماكرون تسعى منذ فترة الى استعادة ولايتها القديمة – التليدة على الساحة اللبنانية المتحركة خصوصاً بعد انحسار الظل السوري ثمّ انكماش الظل السعودي عنها خصوصاً أن هذه الساحة دخلت بعد هذا التطوّر في مرحلة انعدام وزن من جهة وتعاظم النفوذ الإيراني من جهة أخرى.
لذا فإن عودة باريس القوية الى بيروت عشيّة انفجار مرفأ بيروت وغداة هذا الانفجار، كانت عودة "المتحرّر" الى حدّ بعيد من قيود وحدود وتصوّرات وضعتها الإدارة الأميركية والتزمت بها عواصم غربية وخليجية.
باريس تنطلق في رحلة الإياب تلك من رصيد تاريخي في العلاقة مع مكوّنات ومراكز قرار لبنانية أساسية، لكنها باتت تعي أن ذلك الرصيد لم يعد كافياً للبناء عليه إذا ما قرأ الراغبون في الولوج بعينين اثنتين المستجدات والتحوّلات التي بدا فيها "حزب الله" رقماً لا يمكن إغفاله وأمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه.
لذا فإن باريس تعرف تماماً أن انفتاحها هذا يسمح لها بالإمساك بورقة سياسية قويّة ويبيح لها الزعم أنها باتت على صلة بكل مكوّنات الساحة لا بجزء منها.
ومن خلال قبض باريس على ورقة الانفتاح على الحزب صار بإمكانها أن تدير حواراً بالواسطة بين الحزب من جهة وواشنطن والرياض من جهة أخرى، وهو حوار بالغ الأهمية لكونه يتناول مرحلة ما بعد الترسيم البحري وما يواكبها من ملفات أخرى وفي مقدمها ملف الانتخابات الرئاسية وإعادة تأليف الحكومة فضلاً عن مواكبة عملية الإصلاح الاقتصادي والمالي وهيكلة القطاع المصرفي درة التاج في الاقتصاد اللبناني والأهم دور كبرى الشركات النفطية الفرنسية (توتال) في استخراج النفط والغاز من المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة.
وعلى رغم بلاغة كل ذلك فإن الحزب في تقويمه الداخلي لا يغفل أن باريس مهما ضخمت دورها وسرّعت خطاها في الشأن اللبناني فإنها تبقى "الوكيل المستطيع بسواه" والمقصود بسواه واشنطن.
والشاهد الحيّ على هذا الاستنتاج أن مبادرة باريس الشهيرة بعيد انفجار 4 آب ما لبثت أن اصطدمت بـ"فيتو" أميركي خفيّ جعلها لا تعيش إلا أقل من أسبوعين.
وفي كل الأحوال، إنها علاقة الضرورة التي يستفيد منها طرفاها، لذا هما جادان في الحفاظ عليها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
"النهار"- ابراهيم بيرم
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|