لبنان دخل في مرحلة الفقر المائي المدقع!

كثُرت التحليلات عن التغيّر المناخي وانعكاسه على المياه اللبنانية وزادت الارشادات والنصائح لترشيد الاستهلاك وظهر الموضوع وكأنه حدث طبيعي سيزول مع اول قطرة مطر. أما الحقيقة العلمية والارقام تثبت عكس الادعاءات ﺇذ ان المشكلة اعمق من التمنيات.
بسبب تدهور البنية التحتية والاعتماد على المياه الجوفية، تختلف نسب استهلاك المياه العذبة (المتجددة) في لبنان عن المتوسط العالمي فالزراعة وحدها تشكل 80% من الاستهلاك الكلي للمياه والاستخدام المنزلي 15% والصناعة 5%. وقد حدّد البنك الدولي بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي ومنظمة المياه العالمية مستوى الفقر المائي عند حدود 1000 م3 للفرد سنوياً. هذا الرقم معتمد دوليا لتقييم أمن المياه القومي لأي بلد ويعكس الحد الأدنى المطلوب لتغطية الاحتياجات الأساسية للفرد (الشرب والخدمات، الزراعة والصناعة) دون ﺇجهاد الموارد المائية المتاحة. ففي عام 2012، بنت وزارة الطاقة والمياه اللبنانية استراتجيتها المائية على رقم 850 م3 لنصيب الفرد السنوي أي أقل من خط الفقر العالمي وذلك دون احتساب الطلب على المياه الناجم من النزوح السوري. حالياً، ووفق تقديرات المرصد اللبناني للمياه لعام 2023 أصبحت حصة الفرد السنوية ما دون 500 م3، أي أن لبنان دخل في مرحلة الفقر المائي المدقع.
العجز في الميزان المائي
للاحاطة بالملف وتعقيداته لا بد من وضع تصور عام للميزان المائي الذي ينقسم الى الأمطار كمدخل الى النظام و النتح-تبخر (Evapotranspiration) والمياه السطحية والجوفية كمخرج خصوصا مع الوضع الحالي الذي يشهد تغيرات مناخية حادّة. فبعد ان كان معدل المتساقطات 800 ملم/سنة، أعلن المجلس الوطني للبحوث العلمية تدنّي المعدل العام بنحو 15% بحيث وصلت الامطار الى 600 ملم/سنة (2014، 2018، 2021) ومع تراجع بنحو 40% من الغطاء الثلجي العام على الجبال وانحسار فترة غطائه الى 30 يوم بعد ان كانت 120 مما أدى الى الذوبان السريع للثلوج وعدم تسني الوقت الكافي لتغذية المياه الجوفية ومنها الينابيع. كذلك، أشار الى ان نسبة النتح-تبخر وصلت الى 60% من مجموع الامطار وانه فقط 30% منها تغذّي المياه الجوفية. بحسابات بسيطة وبمعدل 680 ملم/سنة للامطار على كامل الأراضي اللبنانية أي ما يعادل 7 مليارات و 107 ملايين م3 نجد خسارة 4 مليارات و264 مليون م3 عبر التبخر ويتبقى 2 مليار و843 مليون م3 كمياه متاحة متجددة مقسّمة الى 1 مليار و990 مليون م3 من المياه السطحية (انهار داخلية او عابرة للحدود) و 853 مليون م3 لتغذية المياه الجوفية.
ad
أمام سياسة ﺇنشاء السدود التي لم تثمر في حفظ المياه السطحية نجد ان التركيز كان وما زال متجهاً الى المياه الجوفية سواء كانت للري او الخدمات المنزلية او الصناعية والسياحية. فوفقاً لآخر التقارير (2020-2023) الصادرة عن وزارة الطاقة والمياه يصل عدد الآبار الرسمية والتابعة لمؤسسات الدولة الى 4000 بئر وتختلف الكميات المسحوبة بحسب المنطقة وحالة البنية التحتية وتبلغ الكمية الجوفية المستخرجة 800 مليون م3/سنة. أما عدد الآبار الخاصة والمرخصة من قبل الوزارة فهو 15 الف بئر يستخرج سنويا 300 مليون م3 لأغراض زراعية، منزلية، سياحية وصناعية. وصولاً الى عدد الآبار غير المرخصة فلا توجد إحصائية رسمية دقيقة بسبب انتشار الحفر العشوائي وغياب الرقابة الفعّالة، لكن تقارير البنك الدولي (2022) وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي (2023) تشير الى وجود 100 الف بئر يستخرج 700 مليون م3/سنة. بذلك يكون معدل حجم الاستهلاك السنوي للمياه الجوفية 1 مليار و 800 مليون م3/سنة . بالرغم من أن منظمة الأغذية العالمية حذّرت منذ عام 2021 من ﺇنهيار النظام المائي الجوفي نجد ان وزارة الطاقة والمياه تعاني من نقص في الرقابة على استخراج تلك المياه الجوفية مما أدى إلى استنزاف الخطط المائية وتداخل المياه المالحة البحرية في معظم المناطق الساحلية التي تضم اكثر من 70% من سكان لبنان بسبب السحب الجائر وانخفاض منسوب المياه الجوفية بنسبة 40% في البقاع. مقارنة بين الحجم الطبيعي لمياه الخزان الجوفي المتجدد وبين الكمية المستخرجة منه نجد ان العجز الجوفي يصل الى 947 مليون م3/سنة أي اكثر من ضعف الكمية المتجددة بمعنى انه حتى لو تم إيقاف جميع الآبار عن العمل سيبقى العجز الجوفي قائماّ لعدة سنوات. أثّرت تلك العشوائية في شفط المياه على استنزاف المخزون بسرعة تفوق معدل التغذية الطبيعية، على اختفاء اكثر من 30 نبعاً وعلى تردي نوعية للمياه المستخدمة.
المياه الافتراضية
عالمياً، يُعتبر القطاع الزراعي المستهلك الأكبر للمياه لذلك ربطت دراسات الأمم المتحدة ومنظمة Water Footprint network الاستهلاك الفردي للمياه بالبصمة المائية عبر ما يعرف بالمياه الافتراضية (Virtual Water) والتي تشمل المياه المستخدمة في الصناعة والمواد الاستهلاكية والمياه المباشرة (الشرب والاستخدام المنزلي) وأهمها تلك المستخدمة في انتاج الغذاء والتي تشكل الجزء الأكبر منها. يتراوح المعدل العالمي من المياه الافتراضية بين 3 و 5 الآف ليتر لاستهلاك الانسان اليومي ويختلف حسب العوامل الجغرافية والاقتصادية والعادات الغذائية. فالدول ذات الاستهلاك العالي للّحوم كالولايات المتحدة هي الأعلى والدول التي تعتمد على النباتات كالهند هي الأدنى. في هذا المضمار، اشارت تقارير برنامج الأغذية العالمية WFO ان اغلبية الدول النامية تعتمد في نظامها الغذائي على 60% من الحبوب (ارز، ذرة وقمح)، 30% من الخضار والبقوليات و10% من اللحوم ومشتقات الحليب. ﺇذا اعتبرنا ان لبنان يستورد كلياً الحبوب واللحوم ومشتقات الحليب وينتج فقط 85% من حاجاته المحلية للخضار والبقوليات (إحصاءات وزارة الزراعة 2023) ومع تعداد سكاني يبلغ 6 مليون نسمة (4 مليون لبناني و 2 مليون سوري نازح) نجد ان استهلاك المياه الافتراضية يصل الى 5 مليار و584 مليون م3/سنة أي ضعف الكمية المتاحة المتجددة (سطحية وجوفية) وهذا هو الدليل الواضح لجفاف الأنهار والينابيع وانخفاض مستويات المياه الجوفية وتداخل مياه البحر في اليابسة.
فاتورة المياه الأغلى عربياً
من الواضح ان التطور القانوني دليل عافية للمشرّع اللبناني ولكن أي مواطن ان لم توضع له ضوابط سيتصرف على هواه دون مراعاة للحقوق العامة وسيبحث عن البدائل لتأمين احتياجاته. ففي ظل انقطاع مياه الشرب والخدمة المنزلية وجد ربّ الأسرة نفسه امام معضلة الاعتماد على الأسواق الخاصة في تأمين احتياجاته. مثالاً على ذلك أجرينا احصاءاً على 280 منزلاً في بيروت الكبرى ووجدنا ان معدل استهلاك الفرد اليومي من المياه (شرب وطهي وخدمة منزلية) هو 146 ليتر وان متوسط تكلفتها هو 90 الف ليرة لبنانية (1 دولار اميركي/فرد/يوم) مجزأة الى 32 الف ليرة للمياه الشرب المعبأة، ، 39 الف للصهاريج الخاصة، 10 آلاف لمياه الطهي و 9 الاف من حصة الاشتراك في مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان (تشكل حصة فاتورة المؤسسة 10% من مجموع فاتورة المياه). أي ان وحدة سكنية مؤلفة من اسرة من خمسة أفراد تدفع سنوياً 164 مليون و250 الف ليرة لبنانية (1835 دولار أميركي/سنة، 153 دولار أميركي/شهر)، تستحوذ مؤسسة المياه منها فقط على مبلغ 17 مليون و 500 الف ليرة (196 دولار أميركي/سنة). أما اذا قارنّا فاتورة الأسرة اللبنانية الشهرية مع تلك المعتمدة للمقيمين، وليس للمواطنين، في دول مجلس التعاون الخليجي لوجدناها أغلى بثلاث اضعاف من المملكة العربية السعودية والبحرين وقطر وعُمان والكويت وحتى من الأمارات العربية المتحدة (معدل وسطي 50 دولار/شهر للمياه المحلاة من البحر).
قوانين غبّ الطلب
تماشياً مع قوانين الاتحاد الأوروبي وكي لا تصبح الموارد المائية الشحيحة عاملاً مقيّداً للعديد من الاقتصاديات المستدامة ظهر قانون المياه رقم 77/2018 ليُنظم القطاع ضمن الإدارة المتكاملة والمتوازنة لموارد الأحواض المائية. أهم ما جاء في مواده ﺇنشاء "المجلس الوطني للمياه"، اللامركزية في الادارة ومبدأ وكالات الأحواض المائية خصوصاً في مواده رقم 22، 23 و24 بحيث يشكّل مجلس إدارة خاص لكل حوض يُعنى بأستثماره وانشاء شبكاته وبحيراته وتحسين بيئته. الا أنه مع غياب عدد من المراسيم التطبيقية لتوضيحه وتحديد الإجراءات اللازمة لتنفيذ مواده تم إيقاف العمل به والانتقال الى قانون جديد تحت رقم 192/2020 والذي صدر كتعديل لبعض احكام مراسيم القوانين السابقة (221/2000) بهدف إدارة القطاع. لكنه اثار جدلا بسبب عدم وجود المراسيم التطبيقية وعدم وضوح آليات الرقابة وبعض البنود التي اعتبرت تمهيدا لخصخصة المياه وبالتالي رفع الأسعار على المواطنين ومنها سعر تحلية المياه. من ابرز بنود القانون إعادة هيكلة المؤسسات المائية ضمن مؤسسة وطنية واحدة تُسمّى "المؤسسة الوطنية لادارة قطاع المياه" وادخال القطاع الخاص في إدارة وتشغيل بعض مرافق المياه (مثل محطات الضخ، شبكات التوزيع).
يُظهر الانتقال بين قوانين غبّ الطلب أن المشكلة استراتيجية اكثر منها مراسيم تطبيقية وحتى اكثر منها قانونية. لذا، حبّذا لو تجتمع كل من وزارة الطاقة والمياه، وزارة المالية، وزارة الزراعة ووزارة البيئة لحل اشكالية المياه والحفاظ على تلك الثروة الحساسة ذلك قبل الوصول الى نقطة اللاعودة، فالحلول سهلة والاقتراحات متوفرة وتنتظر التطبيق.
الدكتور أحمد الحاج- النهار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|