كرامي تجتمع بمدير كلية التربية ورابطة الاساتذة المتفرغين في "اللبنانية"
“الحزب” يستثمر في “هزيمة” الشّيعة… ماذا تفعل الدّولة؟
في سجلّ الولايات المتّحدة أنجح التجارب التاريخية على الإطلاق في نقل شعبٍ بأكمله من موقع العداء المطلق إلى موقع التحالف، بعد حربٍ مدمّرة.
فعلها الجنرال دوغلاس ماك آرثر، القائد الأعلى للقوّات الأميركية التي احتلّت اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. كانت اليابان مدمّرةً ومحبطة ومذهولة من آثار القنبلتين النوويّتين في هيروشيما وناكازاكي. ولا شكّ أنّ اليابانيّين كانوا أكثر تقديساً لإمبراطورهم من تقديس شيعة لبنان لـ”الحزب”. كان في واشنطن حينها تيّار سياسيّ عريض يدعو إلى إذلال الإمبراطور هيروهيتو ومحاكمته. لكنّ ماك آرثر كان واعياً لرمزيّة الرجل، وأنّه يمثّل لليابانيّين ما لا يمثّله هتلر للألمان أو موسوليني للطليان. فطوّر سياسته على الطريقة الإنكليزية، لتجمع بين قدسيّة الرمز وبراغماتيّة المصلحة، والأهمّ أنّه أقنع الشعب الياباني بأنّ الغرب لا يريد بهم إذلالاً أو هزيمةً أو إحباطاً.
يكاد المبعوث الأميركي توم بارّاك يتقمّص ماك آرثر في رسائله المباشرة والضمنيّة إلى الجمهور الشيعي من قصر بعبدا. كان مفاجئاً أن يتضمّن خطابه كلّ إشكالات مسار “حصر السلاح” التي تُطرح على البيئة الشيعية. رفض الحديث عن تهديدات، وأكّد أنّ التعامل مع “الحزب” “عمليّة لبنانيّة”، وتحدّث بلسان حال الشيعة طارحاً الأسئلة التي تُطرح في بئر العبد والنبطية والنبي شيت: “ما الذي نربحه (من نزع السلاح)؟ وكيف نحمي أنفسنا؟ وما هي المرحلة الانتقالية؟ وما هو المستقبل بالنسبة لنا؟ وما هو الازدهار بالنسبة لنا؟”.
يحادث بارّاك العقل الشيعي، ويقدّم له وعداً بـ”الازدهار”، وبأنّ المسار الجديد مصلحةٌ له، ولا يستثني من ذلك “الحزب” الذي هو المؤثّر الأكبر في هذا العقل الجمعيّ. بل إنّه لا يستثني إيران، بوصفها “الجار” الباقي هنا، ويقرّ بأنّ “على الجميع أن يكون له دور في ذلك، وأن يكون هناك تعاون وليس عدائية أو مواجهة”.
حواجز “الحزب”
لكن هل يمكن حقّاً الحديث مع الجمهور الشيعي مباشرة من دون المرور على حواجز “الحزب” المعنويّة؟ هل يمكن أن يسلّم “الحزب” سلاحه من دون أن يشعر الشيعة بالهزيمة؟ هل يسمح “الحزب” بذلك أصلاً؟
ليست هي المحاولة الأولى لمنافسة منطق “الحزب” في الفضاء الشيعي. عام 2006، كانت فكرة الحكومة برئاسة فؤاد السنيورة أنّ الدولة لا بدّ أن تتولّى قيادة الإعمار لئلّا يشعر المواطن الشيعي أنّه متروك لـ”الحزب” وإيران من ورائه. وتدفّقت المساعدات العربية بسرعة قياسية. لكنّ ميزان القوى على الأرض أتاح لـ”الحزب” أن يستحوذ على إعادة الإعمار بأكملها. فلم يكن أمام المواطن الموالي أو المعارض له سوى خيار واحد: أن يأخذ الأموال من الدولة ويقدّمها إلى “الحزب”، ممثّلاً بشركة “وعد”، لتتولّى بنفسها البناء وفق المخطّط الذي يلائم “الحزب” وبنيته التحتية العسكرية والحزبية. وفوق ذلك، نسب “الحزب” إلى نفسه الفضل في الضغط لتحصيل تلك التعويضات، حتّى وصلت الفظاظة (أو الوقاحة) بأحدهم إلى حدّ القول إن العرب يدفعون مرغمين و”إجرهم فوق رقبتهم”.
إعادة الإعمار ربح صافٍ
كانت إعادة الإعمار بعد حرب تمّوز 2006 ربحاً كاملاً لـ”الحزب”، إذ أتاحت له إحكام قبضته على الحالة الشيعية. فمعظم الذين خسروا بيوتهم خرجوا بمكسب مادّي صافٍ (من دون التقليل من هول المعاناة). وزعم “الحزب” لنفسه الفضل في إعادة الضاحية أفضل ممّا كانت، وترجم ذلك في شعاره الانتخابي: “نحمي ونبني”.
هكذا ما بقي شيء من وظيفة الدولة بحكم هذا الشعار. فلا هي تحمي من العدوّ الإسرائيلي، ولا هي توفّر الأموال للبناء لولا سطوة “الحزب”. وتأكّد كلّ ذلك بالانهيار الماليّ والنقديّ عام 2019، فيما كان بنك “الحزب”، “القرض الحسن”، وحده يؤدّي التزاماته كاملة للزبائن. كانت تلك ذروة انهيار صورة الدولة وتكريس سطوة الميليشيا.
بعد هزيمة “الحزب” الواضحة للعيان في 2024، يُثار أمام الجمهور الشيعي إشكالٌ جديدٌ بأنّ الهزيمة، ولا شيء سواها، سبب تعطّل إعادة الإعمار. وهكذا تُطرح أمام الشيعي اللبناني معادلة أنّ السلاح ضمانٌ لوجوده وحصّته في الحكم ورفاهه وإعادة إعمار منزله المهدّم، وتلك المعادلة تشكّل الباقي من وظيفة السلاح، بعدما سقطت مقولة القدرة على ردع إسرائيل وردّ عدوانها.
هكذا تصبح مصلحة “الحزب” في أن يستثمر في مقولة “هزيمة الشيعة”، لتطغى على الجمهور فكرة أنّ الشيعة و”الحزب” شيءٌ واحد، إذا هُزِم هُزِموا جميعاً، وإذا انتصر تمكّنوا من السلاح والسلطة والإعمار.
تحدّيات الدّولة
أمام الدولة تحدٍّ لإثبات العكس. لكنّه تحدٍّ مزدوج. فلا بدّ أن تثبت أنّ الشيعة لم يُهزموا بهزيمة “الحزب”، ولا بدّ أن تثبت جدارتها بثقتهم بما هم مواطنون، لا شيعة فقط، من خلال إدارة الإعمار بكفاية، ومن دون الغرق في متاهات الفساد والاستغلال وهو ما يقاتل الرئيس برّي من أجله ويبدو أنّ الخارج، والأميركيّين تحديداً، يفهمون هذا التحدّي ويعملون على أساسه.
غير أنّ هذا المسار دونه مخاطر الغرق في وهم إغداق المنافع ومزايا الحكم (والفساد)، لشراء الصمت أو للتنازل عن السلاح، لأنّه يفتح أبواباً لا تُغلق على المطالب والمظلوميّات من الجماعات الأخرى، في زمنٍ لا تتيح فيه الموارد ترف العودة إلى سباق الإرضاءات.
ما تحتاج إليه الدولة أن تثبت أنّها هي من “يحمي ويبني” لكلّ مواطنيها، لا للشيعة فقط. بذاك فقط تكتسب ثقتهم وثقة اللبنانيين جميعاً. فقد آن الأوان للاعتراف أنّ “الحزب” ما كان ليتحوّل إلى مشكلة في النظام لولا ضعف الدولة وفسادها واهتراؤها، بقدر ما أنّ العكس صحيح.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|