بعد أربعون سنة … الشيخ عصمت الجردي يودع مدرسة البساتين والعرفان بآسى
حين يُعَلِّم فاقِد السيادة اللبنانيين مَعنى السيادة
ظَهَر نعيم قاسم، الأمين العام لـ "حزب اللّه"، في خطابه الأخير وهو يتحدّث عن "استعادة السيادة" وكأنّ اللبنانيين نسوا أنّ "حزبه" هو السبب الأوّل وراء فقدان هذه السيادة. إنّ الخطاب الذي استغرق أكثر من نصف ساعة، لا يتعدّى عرضًا طويلًا من التناقضات: رجل يملك سلاحًا خارج سلطة الدولة، يفرض على الحكومة قراراتها، ويجرّ لبنان إلى الحروب والويلات، ثمّ يعتلي المنبر ليَتلو على اللبنانيين كيف يتوجّب عليهم استرجاع سيادتهم.
في الحقيقة، إنّ ما يحتاجه لبنان اليوم ليس خططًا تنظيريّة حول السيادة، بل اتخاذ خطوة واحدة فقط وهي: أن يتوقّف "حزب اللّه" عن مصادرة سيادة البلاد. إذ إنّ السيادة لا تُستعاد عبر "إغراق" الحكومة بالاقتراحات على وسائل التواصل الاجتماعي كما دعا قاسم، بل تُستعاد حين تحتكر الدولة وحدها قرار الحرب والسلم. السيادة لا تُصاغ بشعارات عن المقاومة والوحدة، بل عبر تفكيك الدويلة المسلّحة التي تنازع الدولة على مؤسّساتها. يطالب نعيم قاسم الحكومة بخطة "سياسيّة، إعلاميّة، عسكريّة، تعبويّة" لاسترجاع السيادة، فيما "حزبه" هو مَن عَطّل الدستور، وشَلّ البرلمان، وأسَّس اقتصادًا رديفًا.
في خطابه، رسم قاسم صورة مثالية عن "المقاومة": إيمان، وشرف، ودماء، وتضحيات. لكنّه تناسى أنّ هذه "المقاومة" تحوّلت منذ زمن بعيد إلى أداة بيد مشروع إقليمي أكبر، يقرّر مصيرها في طهران لا في بيروت. أمّا ما يسمّيه مقاومة فصار في نظر معظم اللبنانيين ارتهانًا: حدود مرسومة بفعل قرار خارجي، وعمليات عسكرية تبدأ وتنتهي بتوقيت غير لبناني.
ولسخرية القدر، حاول قاسم أن يبرّر عجز "حزبه" عن منع الاعتداءات الإسرائيلية بعبارة أنّ "المقاومة لا تمنع العدوان بل تواجهه"؛ أي أنّها تقف في موقع ردّ الفعل، لكنها مع ذلك تريد تفويضًا دائمًا بحمل السلاح خارج الدولة. ثمّ يستشهد بأنّ إسرائيل لم تجرؤ على اجتياح لبنان منذ 2006 وكأنّ الهدوء على الجبهة الجنوبية دليل على الردع المطلق، بينما يعرف الجميع أنّ "الحزب" مشغول منذ سنوات في حماية نظام الأسد أكثر من حماية لبنان وفي تدريب ميليشيات الحوثي في اليمن وفي تجارة المخدّرات من لبنان إلى العالم بأسره وصولًا إلى أميركا الجنوبية.
والأشدّ خطورة أنّ قاسم هاجم قرار الحكومة اللبنانية القاضي بتجريد "الحزب" من السلاح، واعتبره "خيانة" وإملاءً أميركيًا. بمعنى آخر، إنه يُنَصِّب نفسه فوق الدستور، وفوق الحكومة، وفوق الإجماع الوطني. غير أنّ ما جرى في الخامس والسابع من آب لا يمكن التعامل معه كقرار عابر أو مجرّد مناورة سياسيّة، بل هو محطة مفصليّة في الصراع على مفهوم الدولة. لقد شكّل هذا القرار، للمرّة الأولى، إعلانًا رسميًّا بأنّ معادلة "الجيش والشعب والمقاومة" التي لطالما استعملها "الحزب" كغطاء لهيمنته أصبحت من الماضي، وأن الطريق الوحيد المُعَبَّد أمام لبنان هو طريق الدولة وحدها.
صحيح أنّ التنفيذ الفعليّ لنزع سلاح "الحزب" لن يتمّ بين ليلة وضحاها، وأنّ الجيش اللبناني لا يملك القدرة الفورية على فرض القرار، لكنّ الرمزية السياسية لهذا الموقف لا تقلّ أهمية عن التنفيذ. فالمواجهة مع "حزب اللّه" لا تتعلّق بترسانته العسكرية التي تنتمي إلى منطق حروب مضت، بل بسلاحه الأخطر: مصادرة القرار الوطني وربط مصير لبنان بمحاور إقليميّة. وبالتالي، فإنّ المعركة الحقيقية هي سياسية ودستورية، إذ إنها تكشف هشاشة شرعية "الحزب" وتُعَرّيه أمام اللبنانيين والعالم.
ومن الأهميّة بمكان أنّ من طالب بوقف إطلاق النار لم يكن الدولة اللبنانية ولا المجتمع الدولي، بل "حزب اللّه" نفسه الذي شعر بخطر الاستنزاف. هذا وحده كافٍ لإظهار حجم مأزقه، وللتأكيد أنّ سلاحه لم يعد مصدر قوّة مطلقة، بل أصبح عبئًا سياسيًّا يجرّه نحو عزلة داخلية.
الأمر لا يتعلّق بالمقاومة ولا بالتحرير، بل بمن يحتكر الدولة ليجعلها رهينة مشاريعه. فمن يملك ترسانة صواريخ أكبر من جيش الدولة، ويستعملها ورقة مساومة في طهران، لا يحق له أن يحدّد للبنانيّين كيف تكون السيادة.
السيادة ليست شعارات عاطفيّة تُرفع لأسبوع كما اقترح قاسم. السيادة هي ممارسة يوميّة تبدأ بالقرار الحرّ، وتنتهي ببسط الدولة سلطتها على كامل أراضيها. لبنان لا يحتاج إلى "حملة فيسبوك" بل إلى إنهاء ازدواجية السلاح، وتحقيق استقلال القضاء والتوصّل إلى اقتصاد غير مرتهن للتهريب على الحدود السورية.
أن يأتي "فاقد السيادة" ليعلّم الناس معنى السيادة، هذه قمّة المهزلة. "الحزب" الذي صادر السياسة الخارجية، وحارب في سوريا واليمن والعراق، والذي يعقد التحالفات في طهران وبغداد، ويتحدّى المجتمع الدولي، هو آخر من يحقّ له أن يوزّع دروسًا في الوطنية.
يكشف خطاب قاسم من حيث لا يدري أنّ "حزب اللّه" فَقَد القدرة على إقناع اللبنانيين بجدوى سلاحه. وبَدَل أن يُقدّم تبريرًا مقنعًا، ها هو يكتفي بترداد شعارات من زمن الحرب الباردة: مقاومة، وعزّة، وتضحيات. إلّا أنّ اللبنانيّين اليوم يطالبون بأمرٍ واحدٍ فقط: قيام دولة. يريدون أن يوضع هذا السلاح تحت سلطة الشرعية، وأن يعيشوا في بلد لا يتقدّم فيه حزب على حساب المواطنين.
باختصار، من صَادَر السيادة لا يمكنه أن يُعطي دروسًا في بسط السيادة. ومن يرفض الانخراط في مشروع الدولة، فسيبقى عاجزًا عن إدراك معنى الوطن ويعتقد نفسه من مصاف الأتقياء فيما هو لا يختلف عن قاطع طرق.
مكرم رباح - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|