إقتصاد

ودائع اللبنانيين بين الوعود والحلول

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

كتب العميد الدكتور غازي محمود :

منذ خريف عام 2019، يعيش لبنان واحدةً من أصعب أزماته المالية والاقتصادية وأشدها تعقيداً، بعدما انهار القطاع المصرفي وانهارت معه ثقة المودعين فيه، جراء القيود الصارمة على ودائعهم التي قُدّرت بأكثر من 90 مليار دولار، وعلى عمليات التحويل والسحب. ليجد اللبنانيون أنفسهم أمام واقع غير مسبوق: مدخرات العمر باتت "أرقاماً على الورق"، والمصارف التي كانت رمزاً للاستقرار المالي تحوّلت إلى مصدر قلقٍ دائم، بعد أن أصبحت السحوبات محصورةً بسقوف متدنية ووفق أسعار صرف متعدّدة.

وقد تفاقمت الأزمة مع غياب سياسة مالية واضحة، وتردد الحكومات المتعاقبة في تحمل المسؤولية. ولا سيما فيما يتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحديد حجم الخسائر وتوزيعها بشكل عادل، وإقرار خطة تعافٍ واضحة وشفافة، على الرغم من المطالبات المحلية والضغوط الدولية. ما جعل من ملف الودائع العنوان الأبرز لأي نقاش اقتصادي أو إصلاحي، ورمزاً لفشل المنظومة السياسية والاقتصادية في حماية حقوق المواطنين، وجعّل منه قضيةً وطنية بامتياز.

مشاريع متعددة ولا نتائج
وفي الوقت الذي ليس لدى الحكومة الحالية مسودة لمشروع قانون الفجوة المالية لعرضه على مجلس الوزراء لدرسه والمصادقة عليه، تشير مصادر معنية في البنك المركزي إلى أن ثمة خطة يجري العمل على إعدادها ستركز على سبل تخفيض حجم "الفجوة المالية" إلى ما دون الـ 50 مليار دولار وفق الاسس القانونية والعادلة، وبعد إجراء عمليات التدقيق المنشودة في ميزانيات البنوك.
وتقضي الخطة بفصل الأموال المشكوك بمصادرها ضمن خانة خاصة إلى حين إثبات مشروعيتها، وعزل الحسابات «النائمة» لسنوات طويلة، بالإضافة إلى إلغاء الفوائد العالية التي كانت تُعطى على الودائع وتخفيضها الى المستويات المتعارف عليها عالمياً. فضلاً عن تسريع المساءلة حول عجز الـ 20 مليار دولار الذي تسبب به تمويل الكهرباء، والـ 11 مليار دولار الناتج عن دعم استيراد السلع الاستهلاكية. 

الامر الذي لم يكن متاحاً لولا إقرار المجلس النيابي في عام 2024 تعديلات على قانون السرية المصرفية، التي تتيح للجهات الرقابية التدقيق في الحسابات وصولاً حتى عشر سنوات سابقة. والتي اعُتبرت التعديلات خطوة أساسية على طريق الإصلاح، إذ تسمح بكشف المخالفات ومحاسبة المسؤولين عن تهريب الأموال أو التلاعب بها.

في المقابل، يؤكد كريم سعيد الذي عُين حاكماً لمصرف لبنان مطلع عام 2025، بأن المودعين ليسوا مسؤولين عن انهيار القطاع المصرفي، وأن الحل يتطلب توزيع الخسائر بين الحكومة والمركزي والمصارف مجتمعة، لا تحميلها للأفراد الذين دفعوا ثمن الأزمة من مدخراتهم. وصغار المودعين الذين لا تتخطى ودائعهم الـ 100 ألف دولار والذين يُشكلون قُرابة الـ 84% من المودعين، سيكون لهم الأولوية في الدفع النقدي، فيما تُطرح صيغ مختلفة لمعالجة ودائع كبار المودعين.

أما الأفكار المطروحة لإعادة ودائع كبار المودعين التي تتجاوز حساباتهم الـ 500,000 دولار، بحسب توصية معهد التمويل الدولي، فتتلخص بإنشاء صندوق استعادة الودائع (Deposit Recovery Fund)، يُموّل من أصول الدولة أو من إصدارات سندات طويلة الأجل. الصندوق قد يتولى إعادة المبالغ الصغيرة تدريجياً، فيما يتم تحويل المبالغ الكبيرة إلى أدوات دين تُسدد على فترات زمنية طويلة.

تبدو الفكرة للوهلة الأولى "بصيص أمل"، لكنها تثير مخاوف عدة: كيف سيُموّل الصندوق فعلياً في ظل عجز الدولة؟ وهل سيقبل المودعون بانتظار عقود لاسترداد أموالهم؟ وما الضمانات بعدم تبديد موارد الصندوق كما حصل في السابق؟ سيما وأن ربط حقوق المودعين بصندوق غير موجود بعد، يعتبر أمراً غير قابل للتعويل عليه في الوقت الراهن.

في المقابل، تشير بعض المصادر إلى أن مشروع قانون لإعادة هيكلة القطاع المالي، يتضمن الحفاظ على نحو 100 ألف دولار في الحسابات، فيما يُحوَّل ما يزيد عنها إلى سندات أو أدوات دين حكومية. فالهدف هو تجزئة الكتلة الضخمة من الودائع وتوزيعها على مراحل. غير أن هذا الطرح يُثير جدلاً واسعاً بين المودعين الذين يخشون أن تصبح أموالهم "أرقاماً على ورق"، وبين المصارف التي تتخوّف من خسائر لا طاقة لها على تحملها.
المودعون بين الأمل والواقع

النتيجة أن المودع اللبناني لا يزال أسير الانتظار، يعيش على أمل أن يرى مدخراته يوماً وقد استعادت قيمتها الحقيقية. والمؤلم أن كل يوم يمر تفقد فيه الودائع بفعل التضخم، جزءاً من قيمتها، ما يعني أن حتى إعادة الأموال "اسميّاً" لا تعني بالضرورة استعادتها بقيمتها الفعلية، بينما تطرح الخطط والقوانين على الورق. 

والمودعون ينتظرون بفارغ الصبر أي بارقة أمل، لكنهم يواجهون واقعاً قاسياً، تتضارب خلاله الوعود بين مصرف لبنان والحكومة والمصارف. حيث ينتظر صغار المودعين استعادة ودائعهم نقداً وعلى مراحل، أما كبار المودعين، فقد تحول ملفهم إلى ساحة صراع سياسي وقضائي، وسط تساؤلات عن عدالة توزيع الخسائر.

الخلاصة
ست سنوات على الأزمة، ولا يزال ملف الودائع معلقاً بين خطط حكومية ومصرفية، وشروط دولية، وصراعات داخلية، وهو يعكس بوضوح عمق الأزمة البنيوية على مستوى الدولة اللبنانية: غياب رؤية اقتصادية، تضارب مصالح القوى الحاكمة، وانعدام الثقة بين الدولة ومواطنيها. وما هو واضح أن لا حل سريعاً أو سهلاً، وأن استعادة الأموال ستتطلب سنوات وربما عقوداً، ضمن خطة إصلاح شاملة تتوزع فيها الخسائر بعدل وشفافية.
فالثقة المفقودة بين المواطن والدولة لا يمكن استعادتها بالوعود وحدها، بل بخطوات ملموسة تبدأ بإعادة الأموال لصغار المودعين، ومحاسبة المسؤولين عن الانهيار، وفرض الشفافية في إدارة المال العام. من دون ذلك، ستظل ودائع اللبنانيين رهينة السياسة والمصالح، وسيبقى الأمل باستعادتها معلقاً على مستقبل مجهول.

فاستعادة ثقة المودعين بالمصارف تتطلب مبادرة صادقة من هذه المصارف، تتضمن خطة شاملة وواضحة لتسديد الودائع، من دون استثناءات أو سقوف ظالمة، وبجدول زمني عادل. لأن الثقة لا تُستعاد بالوعود، بل تُبنى بالأفعال، وبإعادة الحقّ إلى أصحابه. 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا