مكاننا في اللعبة الأميركية الكبرى
لا شك أن ما يحدث الآن في دولنا تفاصيل ثانوية في اللعبة الأميركية الكبرى، والتي تقوم على ايديولوجيا القوة، كرديف لايديولوجيا المال. أجل، تغيير العالم، وليس فقط تغيير الشرق الأوسط، دون أي بعد انساني، أو تاريخي، كما لو أن الكرة الأرضية وجدت لتكون مسرحاً مفتوحاً أمام ذلك الكاوبوي الذي يطلق العنان لحصانه، وهو يسابق الريح، ليعود ويسابق الأزمنة. وكان هنري كيسنجر قد تنبأ بصراع الآلهة!...
الصين أمام أميركا. الهند أيضاً، الدولتان، بالتاريخ البعيد، وبالتراث اللاهوتي المترامي الذي يتعدى، أحياناً، البوذية والهندوسية. كل منهما تنزع، بطبيعة الحال، الى أن تكون أمبراطورية كبرى، بالقوة االتكنولوجية، وبالقوة الاقتصادية، وحتى بالقوة العسكرية، بذلك العدد الهائل من البشر. هذا ما حمل المفكر الروسي ألكسندر دوغين على القول ان الرئيس الأميركي يرتعد، ولهذا قد يكون قد فكر بقطع مضيق بيرنغ، والحاق روسيا بأميركا، وليس فقط لعوامل جيوسياسية أو جيوستراتيجية، بعدما راهن على تحويل كندا الى الولاية الحادية والخمسين، ووضع اليد على جزيرة غرينلاند، ودون أن يرى في القارة العجوز سوى ظاهرة في طريقها الى التلاشي، بعدما استنفدت امكاناتها التاريخية، والأمبراطورية، وحتى الثقافية.
هنا الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر تعقيداً بسبب الاجترار العبثي للثقافة القبلية، والثقافة الغيبية، بحيث لم يتردد الأميركي وليم كريستول في وصفها بـ"منطقة الوثنيات الكبرى"، لا منطقة الديانات الكبرى التي تحولت، في نظره، الى ايديولوجيات رثة ومتهالكة. ولا مرة نظر الأميركيون الى البلدان العربية كدول قابلة للتفاعل مع الزمن. أو حتى للتفاعل مع الحياة. مضارب قبلية، ولا مجال لخروجها من ذلك الجزء الخلفي، أو الجزء المظلم، من التاريخ، لتبدو الدول اياها وكأنها مقابر وثيرة، أو مقابر بائسة، للأحياء، وليس فقط للموتى.
لتبدو أمامنا نظرة دونالد ترامب، لا كأمبراطور فقط، بصلاحيات اسطورية، وانما كنائب لله، بامكانات تتعدى امكانات الأنبياء الذي لم يعد لهم من مكان في زماننا، وحتى لم يعودوا يصلحون للمتاحف. لا دولة هناك سوى اسرائيل، بتلك الخلطة العجيبة (أو العجائبية) بين الايديولوجيا والتكنولوجيا، وبين التاريخ واللاتاريخ، باللوثة الاسبارطية في منطقة ما زالت دولها لا تفرق بين النزعة البدائية الى الغزو (بحثاً عن الكلأ)، والديناميات الحديثة للجيوبوليتيكا. المسنون ما زالوا يذكرون "مبدأ ايزنهاور" الذي أطلقه، عام 1957، الرئيس دوايت ايزنهاور، والذي خلع للتو بزة الجنرال. العنوان كان "ملء الفراغ في الشرق الأوسط". حتى الآن، لا يرى البيت الأبيض في المنطقة الا كونها اناء جغرافياً فارغاً من كل ما يتعلق بجدلية الأزمنة، أو حتى بجدلية الثقافات.
الفيلسوف الفرنسي فرنسوا بورغا دعا الرئيس الأميركي للنظرالى الشرق الأوسط، كما للعالم، من زاوية فلسفية، لا من زاوية عقارية، أو من زاوية استراتيجية، لأن ذلك يحوّل الولايات المتحدة من حالة أمبراطورية فرضت اسلوب حياتها على البشرية، الى حالة دونكيشوتية تضيع في ذلك الهباء الغامض، والذي يدعى... العالم!
أجل، ما يحدث في منطقتنا التي في اهتزاز متواصل (هيرودوت قال انها تقع على خط الزلازل)، ليس أكثر من تفاصيل هامشية، لكنها التفاصيل المعقدة. كيف يتم تعليب البلدان العربية، اضافة الى تركيا وايران، دون أن تكون المقولة التوراتية (من النيل الى الفرات) قابلة للتنفيذ، ودون أن يكون بامكان الدولة العبرية استيعاب المنطقة بعدما أظهرت حرب غزة انها ليست بالقوة الالهية، في مواجهة بضعة آلاف من المقاتلين، وفي ظروف لطالما وصفناها بالمستحيلة، وأنها ساقطة عسكرياً، وبكل معنى الكلمة لولا الامدادات الأميركية، وحتى الامدادات الأوروبية، اليومية.
لبنانياً، "حزب الله"، وبعيداً عن الظلال الايرانية، لا يثق بالأميركيين، وبطبيعة الحال بالاسرائيليين. وهذه مسألة منطقية للغاية، وحتى أنه لا يثق بالسلطة اللبنانية الحالية، كونها "تشكيلة أميركية". وهذا ما يتبدى من الالتباس الذي يعتري التصريحات الأميركية. من فهم ما نتيجة الزيارة الأميركية الأخيرة، سوى العناوين المقتضبة والباهتة، والتي توّجها السناتور لندسي غراهام بتصريحه الشديد الوضوح "من دون نزع سلاح "حزب الله" ستكون مناقشة انسحاب اسرائيل بغير جدوى". هل تستطيع الدولة أن تضمن عدم قيام نتنياهو بخطوة مجنونة ضد الحزب، ودون أن يكون خفياً على أحد أن هناك جهة محددة، ومؤثرة، تضغط ليس فقط لازالة "حزب الله" من الوجود، وانما لتحويل الضاحية الجنوبية الى أنقاض، تحت عنوان تنظيف بيروت من "تلك الحثالة".
وهل أن تصريحات توماس براك، بتلك الشخصية الثعبانية، يشكل الضمانة اذا ما لاحظنا مواقفه المتراقصة منذ اضطلاعه بتلك المهمة، وهو الذي أسرّ في أذن رئيس أحد الأحزاب أن ادارة ترامب تعطي الأولوية القصوى لأمركة سوريا، ونحن نرى ما تفعله اسرائيل، يومياً، في الجنوب السوري، دون أي اعتراض، ولو كان شكلياً، من الولايات المتحدة.
لندع ديبلوماسياً مصرياً مخضرما، وصديقاً، من العهد الناصري، يقول لنا "تلك الأمبراطورية التي فرت من فيتنام، وهي بلد الحفاة، تحت جنح الظلام، والتي توارت، على ذلك النحو الفضائحي، من أفغانستان، بلاد الخشخاش، كيف لها أن تمسك بالعالم، بل كيف لها أن تمسك بالشرق الأوسط الذي عجز حتى الآلهة، وحتى الأنبياء، من الامساك به"؟
نبيه البرجي - الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|