حقاً مَن وعد الهجَري بدولة للدروز؟
مساء الخميس الفائت، أصدر الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحِّدين الدروز، بياناً جديداً لا يحمل في طيّاته جديداً على مواقفه الأخيرة المعلَنة. البيان ينتهي بتأكيد "أنَّ حق تقرير المصير هو حق مقدَّس، تكفله جميع المواثيق الدولية، ولن نتراجع عنه مهما كانت التضحيات. سنواصل النضال حتى يتحقق لشعبنا مستقبل آمن، كريم، وعادل".
في البيان نفسه استخدم الهجري كلمة "شعب" مرات عديدة، يوضّح فحواها قولُه: "ورغم الجراح، أثبت أبناء الطائفة الدرزية في أنحاء العالم أنهم جسد واحد، يعملون بتنظيم وتكاتف، ويلملمون جراحهم، ويستعدون لمواجهة التحديات بروح لا تنكسر. لقد أثبتوا قدرتهم على العمل والإنتاج برغم كافة الصعوبات والمعوقات وشحّ الموارد، تأكيداً أنهم شعب لا يساوم على قضيته وكرامته، وحقه في تقرير مصيره، مهما اشتدت الظروف".
إذن، ما يتحدث عنه الهجري هو "الشعب الدرزي"؛ "الشعب الدرزي" في السويداء حصراً، لأنه لا يمثّل الدروز في لبنان أو فلسطين. وكما هو معلوم، يقود الشيخ موفق طريف مساعي لدى الحكومة الإسرائيلية لدعم الدروز في سوريا، لا تصل إلى حد المطالبة بتغيير الخرائط وإقامة كيان درزي في المنطقة، في حين هناك افتراق علني بين زعامة آل جنبلاط في لبنان والشيخ الهجري، مع التنويه بتمرُّس الزعامة الجنبلاطية على صعيد السياسة الداخلية في لبنان والعلاقات الدولية والإقليمية، بما يتجاوز الأفق الضيق الذي يحكم زعامة الهجري.
النبرة التي يكررها الهجري في بياناته مؤخراً، وكذلك حديث النسبة الغالبة من نشطاء السويداء عن الاستقلال وعن طلاق درزي (لا رجعة عنه) مع دمشق، تدفع إلى السؤال حقاً: مَن وعد الهجري بدولة للدروز في السويداء؟ التساؤل ليس على سبيل الاستنكار أو العكس؛ بل غايته أولاً التعرف على الوقائع قبل اتخاذ ما يلائمها من مواقف. فوجود وعود دولية، حتى إذا كانت مضلِّلة وكاذبة، يأخذ النقاش إلى مكان آخر تماماً.
لا جديد في القول إن وجود رغبة دولية في التقسيم لن تجد مقاومة متناسبة معها ممن يريدون العكس، فسوريا الحالية تأسست على تفاهمات دولية من قبل، ولم يتغير شيء خلال قرن مضى سوى ازدياد ضعفها بضعف أهلها. وحتى التصدي للرغبات الدولية يلزمه وضوح في الرؤيا من الذين يريدون ذلك، بحيث تُعرف الجهات الدولية التي تريد التقسيم، ثم يكون التصدي لمقاصدها وفق الإمكانات المتاحة.
في الأصل، ليست فكرة وجود مخططات حاسمة لمستقبل سوريا في أدراج مراكز صنع القرار واقعيةً، وحتى إذا كانت هناك سيناريوهات للتعاطي مع الوضع السوري، فمن المعتاد ألا تؤدي جميعها إلى نهاية وحيدة. وقد اختبر السوريون جيداً كيف تعامل العالم مع سلطة بشار التي كانت ساقطة عملياً في أكثر من مرة، وعُوّمت بخلاف الواقع، وبخلاف رغبات نسبة كبرى من السوريين. ولا يُستبعد في الإطار نفسه العمل بسيناريو التسويف؛ أي الإبقاء على الوضع السوري في إطار اللا يقين، على جبهة السويداء وعلى جبهة مناطق سيطرة قسد.
جدير بالذكر أنه لم تكن هناك منذ الاستقلال قضية درزية، بخلاف القضية الكردية التي بدأت بذورها باكراً، وتأسس أول حزب كردي منذ قرابة سبعين عاماً. ومع هذا الإرث المديد، ونشاط الحركة السياسية والثقافية الكردية الدؤوب برغم منعها رسمياً، فإنَّ ما يطرحه معظم الأكراد هو حكم فيدرالي، لا الاستقلال حتى إن كان هناك من يحلم به. بهذا المعنى ليس هناك تراكم وأدبيات أسست لمشروع درزي في سوريا، والوضعية الطائفية مهما كانت صلبة ومتماسكة لا تؤسس تلقائياً المشروع الكافي لقضية مثل الانفصال، فضلاً عن ضيق الجغرافية والموارد اللذين يعيقان الكثير من الأحلام. والاستقلال الذي يطرحه الهجري وسواه يضيق حتى على دروز سوريا؛ إذ يقتصر على السويداء، فيستثني دروز جرمانا وصحنايا وأشرفيتها وجديدة عرطوز وأماكن أخرى من ريف دمشق، إلا إذا كان المطلوب تهجيرهم إلى السويداء!
الخطاب الذي يقدّمه الهجري فيه الكثير من التردي النظري الذي لا يقتصر على ما يطرحه، فهو يتشارك مع الكثير من الأفكار المطروحة في كونه يعتمد أساساً على تعذّر الاجتماع السياسي السوري على نحوٍ مُرْضٍ للجميع. الحل البسيط نظرياً هو في هروب كل جماعة من حكم السلطة الحالية وسيطرتها باعتبارها ممثِّلة للأكثرية العربية السنّية. والفصل الذي يقدّمه بيان الهجري الأخير حاسمٌ لا يحتمل الاستثناء، فهو قدّم الشكر والامتنان إلى "الولايات المتحدة الأميركية والرئيس دونالد ترامب، وإلى إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، وإلى أخوتنا الأكراد، وإلى أخوتنا العلويين في الساحل السوري الذين عانوا من بطش هذه الحومة الإرهابية". إنه (بوضوح) غير مستعد لإضافة شكر، لا على التعيين، لمتضامنين مع الضحايا خشيةَ أن يشمل التعبير أحداً من المتحدرين من المذهب السنّي.
ليست المسألة في أنه يعيد إنتاج ما تُتهم به السلطة على الصعيد الطائفي فحسب؛ بل هي أيضاً في تولية القيادة لمرجعية دينية غير مؤهّلة لأبعد من هذا. وإذا كان الهجري نفسه نال ترحيباً على نطاق أوسع من الطائفة وقتَ اصطف إلى جانب انتفاضة السويداء ضد بشار، فقد ناله بفضل الخطاب الوطني الذي قدّمه آنذاك، وضمن ظرف استثنائي يُفترض ألا يصبح هو القاعدة؛ فالمرجعية الدينية لا تلبّي أصلاً تطلعات شرائح واسعة من منبت درزي تريد الخلاص من تحكم الطبقة الدينية، وجزء منها كان فاعلاً في الثورة ضد الأسد منذ اندلاعها، وعلى قاعدة الطموح إلى سقف عالٍ من الحريات السياسية والشخصية.
في ما دون الدولة الدرزية المأمولة، بقاء حالة السويداء كما هي لن يجعل منها فاعلاً ضمن مشروع سوري أوسع، وتحطيمها سيحطم إلى أمد طويل أيّ مشروع فيها، وحتى عودتها تحت مظلة السلطة المركزية بموجب ترتيبات خاصة سيبقيها خارج الفضاء السوري الأوسع. الاحتجاج الدرزي واسع النطاق على الأكثرية السنيّة، وإذا كان مفهوماً في جانب منه، سيبقى في إطار الحَرَد ما لم يتخذ طابعاً إيجابياً بطرح مشروع، أو على الأقل تصورات واقعية للمستقبل.
ما لا يُنتبه إليه في هذه الحالة المعممة، أو الاستعصاء المعمم، هو كلفته لجهة غياب مشروع سوري واقعي. اليوم لا مشروع جامعاً يليق ببلد خارج من ثورة وصراع داخلي وخارجي أودى بعدد هائل من الضحايا، ولن يكون ثمة مشروع ببقاء سوريا منقسمة على هذا النحو. المطروح للتداول أفكارٌ هي ابنة الانقسام؛ الانقسام الذي يولِّد المزيد من هذه الأفكار ضمن دوّامة لا يبدو الخروج منها ممكناً.
اليوم، وهذا يستحق وقفةً أطول، سوريا في حالة اضطراب، أكثر مما هي في زمن تأسيسي. تعزيز الاصطفاف الطائفي، من أية جهةٍ أتى، يقدّم خدمة للذين يطمحون إلى عدم توحيد سوريا، وإلى الإبقاء على السوريين منقسمين. مواجهة هؤلاء لا تكون بأدواتهم، ولا يقودها مشايخ وطائفيون من كافة المشارب؛ بل تبدأ بالسعي إلى حيث لا يشتهون.
عمر قدور -المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|