"لا بيانات فارغة"... الخطيب: ننتظر من قمة الدوحة قرارات مصيرية
مَن يتحمّل مسؤولية الدعم السياسي والدبلوماسي المقدَّم لـ(منظمة إرهابية)؟
يتطلب الوضع الراهن من الأمم المتحدة وبعض الدول المعنية بالشأن السياسي في سوريا الاعتراف بمسؤولياتها القانونية والأخلاقية لتورطها غير المباشر - وربما المتعمد - في تسهيل وصول إحدى أبرز الجماعات الإرهابية إلى السلطة في سوريا. لا ينبغي النظر إلى الدعم الدبلوماسي والسياسي الذي تلقته هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وزعيمها "أبو محمد الجولاني" على أنه مجرد خطأ في التقدير السياسي، بل هو انتهاك واضح لمبادئ القانون الدولي الأساسية وخرق للقواعد الدولية الآمرة التي تحظر دعم الإرهاب أو المنظمات الإرهابية. إننا اليوم أمام سابقة تاريخية مقلقة تبرز ازدواجية المعايير الدولية تجاه قضايا جوهرية؛ الأمر الذي يُهدد الأمن الجماعي ومفهوم الشرعية الدولية.
لقد تم التغاضي عن تاريخ حافل بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم جسيمة ارتكبتها هيئة تحرير الشام بشكل متعمّد. فجأةً، ودون سابق إنذار، برز "الجولاني"، الذي خلع عباءته وارتدى ربطة عنق، كمحور لتحقيق الاستقرار السياسي المنشود في سوريا. بات الأمر كما لو أن سوريا قد خلت من أي كفاءات أوخبرات قيادية سياسية أو مدنية قادرة على إعادة بناء الدولة بعد سقوط نظام الأسد؛ الأمر الذي يثير الدهشة والتساؤلات حول عوامل الدعم السياسي والدبلوماسي الذي أدى لوصول لشخص ذي أيديولوجية متطرفة وجماعة إرهابية كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتنظيم القاعدة إلى سدة الحكم في سوريا.
الدعم السياسي والدبلوماسي الدولي الذي تلقاه احمد الشرع "الجولاني" ساعده بشكل واضح على اكتساب شرعية لم تكن موجودة لديه بالأصل، وهو ما جسّد نسفاً القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الدولي بخصوص مكافحة الإرهاب، لتحل محلها فرضية البريطاني جوناثان باول حول التفاوض مع الإرهابيين. هذه الفرضية التي يبدو أنها قيد الاختبار حالياً في سوريا، دون الأخذ بعين الاعتبار الأهمية الجيوسياسية لبلد مثل سوريا، أو إيلاء أهمية ما للتعقيدات البنيوية في سياق النزاع المسلح الذي شهدته هذه الدولة.
إن دعم منظمة كانت مصنفة على قوائم الارهاب العالمي في سوريا، وتجاهل ماضيها الدموي، يُظهر بوضوح كيف أن القانون الدولي تحول من إطار تنظيمي إلى أداة انتقائية، حيث يُثير هذا الوضع معضلة فلسفية حول طبيعة هذا القانون: هل هو عبارة عن قواعد مُلزمة، أم مجرد خطاب سياسي يخدم أجندات مُحددة؟ يبدو أن المجتمع الدولي قد عاد إلى ما قبل مؤتمر سان فرانسيسكو عام ١٩٤٥، حيث يتم إغفال مبادئ الأمن الجماعي لصالح التوازنات الوظيفية، وهو ما يشكل سبباً رئيسياً لقوى دولية لكي تقوم بتعويم ودعم منظمة إرهابية وتحويلها إلى فاعل سياسي. هذا المنظور، الذي يضفي الشرعية على الإرهاب ويحوّله إلى فاعل سياسي، ويزوّده بأدوات الدولة القانونية والسياسية والدبلوماسية، إنما يُشكل خطراً أكبر من الإرهاب نفسه.
تحمل مسؤولية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا
من غير المنطقي منح الثقة لمنظمة إرهابية وزعيمها من أجل تولي زمام الأمور السياسية في دولة جرى تدميرها على مدى 14 عاماً. فمن غير المرجح أن يتجه أولئك الأشخاص الذين يحملون أيديولوجيات متطرفة نحو تحقيق مستقبل سياسي مستقر قائم على التشاركية في مجتمع متنوع دينياً وعرقياً. نعم. لقد فشل أحمد الشرع (الجولاني) عن إدارة المرحلة الانتقالية في سوريا، وفي الواقع، كان فشله هذا متوقعاً؛ لا، بل كان حتمياً، لا سيما وأنه أبدى رغبة قوية في التمسك بالسلطة منذ وصوله لها. لقد اعتمد على الفصائل العسكرية الموالية له التي أيدت تعيينه كرئيس انتقالي، ثم قام بتشكيل حكومة من مؤيديه المقربين، وأصدر إعلاناً دستورياً يمنحه صلاحيات شبه مطلقة، وبدأ في بناء إمبراطورية مالية معتمداً على شخصيات حليفة مقربة منه ومن افراد عائلته. كل هذه الإجراءات تؤكد أنه يسعى لبناء نظام استبدادي جديد مشابه لنظام بشار الأسد سابقاً، وعلى الرغم من ذلك، استمر الدعم السياسي والدبلوماسي الدولي تجاهه!
في آذار 2025، ارتكبت القوات العسكرية التابعة للسلطة الانتقالية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في الساحل السوري، شملت إعداماً ميدانياً للمئات من المدنيين وتصفيتهم في الطرقات. ثم كرّرت هذه السلطة تلك الفظائع ضدّ الطائفة الدرزية في السويداء جنوب سوريا، مستخدمة أساليب القمع الوحشي من قتل المدنيين وإحراق المنازل وقطع الرؤوس. وعلى الرغم من وجود أدلة قطعية تثبت تورطه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لم يصدر أي موقف دولي واضح يدعو لعزل أحمد الشرع "الجولاني" من السلطة ومحاسبته. لذا، فإنّ من قدّموا له الدعم السياسي والدبلوماسي الذي مكّنه من البقاء في السلطة يتحمّلون مسؤولية الفظائع الجماعية والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها في سوريا.
الاعتراف بالخيارات السياسية للأقليات الدينية والفئات الاجتماعية في سوريا
تواجه الأقليات الدينية والمكونات الاجتماعية السورية الآن واقعاً مأساوياً، حيث بات وجودها بحد ذاته على المحك. فالتحولات الجذرية التي حدثت في سوريا خلال الأشهر الماضية تبين بوضوح أن الخيارات السياسية التي اتخذتها الأقليات الدينية والفئات الاجتماعية، والمتمثلة برغبتها في الاستقلال السياسي والإداري عن سلطة الشرع (الجولاني) لم تعد اختيارية؛ بل أصبحت ضرورة حتمية للحفاظ على هويتها وضمان وجودها. فقد وصلت هذه الأقليات إلى قناعة تامة مفادها بأنه: إما أن يكون لها إطار سياسي يحميها، أو أنها ستُواجه الإبادة.
على سبيل المثال، بات لدى الدروز قناعة تامة بأنهم سيواجهون إبادة جماعية إذا خضعوا لسيطرة السلطة الانتقالية " لسلطة الجولاني"، لا سيما وأن الفظائع التي تم ارتكابها بحقهم في السويداء تدل بوضوح على نية هذا الشخص وسلطته لإبادتهم. وبالتالي، فإنّ الحفاظ على استقلالهم السياسي هو خيارهم الوحيد القابل للتطبيق للحفاظ على وجودهم. وبالمثل، يتعرض العلويون في مناطق الساحل السوري لانتهاكات يومية جسيمة، أسست لقرار ذاتي لديهم بضرورة الاستقلال عن سلطة "الجولاني"، في الوقت الذي لن يتخلى الأكراد عن مكتسباتهم السياسية والعسكرية في شمال شرق سوريا ليتعرضوا للاضطهاد مجدداً.
نحن أمام جغرافية ممزقة في سوريا، ناتجة بشكل أساسي عن وجود منظمة كانت مصنفة على قوائم الارهاب الدولية في السلطة السياسية، أعادت إحياء نهج الاستبداد القديم، وساهمت بانهيار الثقة بين المكونات الاجتماعية السورية. لذلك، لن يكون من السهل تجاوز هذه المعضلة بسهولة، وإجبار الأقليات والمكونات الاجتماعية السورية على التخلي عن خياراتها السياسية الوجودية، وبالتالي، يجب على الأمم المتحدة والأطراف الدولية المعنية بالملف السياسي السوري أن تعترف بتلك الخيارات، فهي ليست شرعية وحسب، بل إنها ضرورية لتصحيح الخطأ المتمثل بدعم منظمة إرهابية وزعيمها للوصول إلى السلطة السياسية. إن الاعتراف بهذه الخيارات السياسية ودعمها بشكل مناسب، سيمهد الطريق لحل سياسي من شأنه أن يشكل مخرجاً للتعقيد في المشهد السوري، ويمنع الانهيار المحتمل. وفي المقابل، قد يؤدي إهمال هذه الخيارات إلى مزيد من الاضطرابات المجتمعية، ويُعزز الصراع المستمر بين السلطة الانتقالية والمكونات الاجتماعية الأخرى التي ترفض الاندماج معها سياسياً وإدارياً.
إجراءات عملية بدلًا من الخطاب السياسي الهامشي
يبدو أنه لا يوجد إرادة دولية جادة لتحمل المسؤولية عن الخطأ القانوني والأخلاقي المتمثل بدعم منظمة كانت مصنفة على قوائم الإرهاب وزعيمها، وهو ما أدى لهذا الوضع المزري في سوريا حالياً. كما ولا يوجد إرادة دولية جادة لتحييد احمد الشرع "الجولاني" عن السلطة السياسية ومحاسبته عن الجرائم التي قام بارتكابها. لكن وفي الوقت ذاته، عاد المبعوث الأممي الخاص لسوريا "غير بيدرسون" ليشير إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لعام 2015، والذي يضع مساراً منهجياً للحل السياسي في سوريا.
لا يزال الشعب السوري يعاني منذ 9 أشهر بعد سقوط نظام الأسد في انتظار تغيير سياسي واقتصادي حقيقي، وقد قُتل المئات من السوريين بسبب النظام الجديد الذي لا يختلف عن نظام الأسد في منهجه الوحشي، في حين لا يزال "الجولاني" يعرقل أي تقدم في العملية السياسية الانتقالية، ولم يعد بإمكان الذين قدموا له الدعم السياسي والدبلوماسي أن يرمموا شرعيته غير الموجوة بالأصل، نتيجة ما قامت قواته العسكرية بارتكابه من انتهاكات جسيمة في الفترة الماضية. هذا الأمر يبرز ضرورة إعادة النظر في تفعيل تطبيق القرار رقم 2254 الذي قد يمهد الطريق نحو حل سياسي مستدام. لكن من جانب عملي، يجب أن يتم تعديل المسار المحدد في القرار رقم 2254 لكي يتناسب مع التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا منذ سقوط نظام الأسد، ولكي يتواءم مع الخيارات السياسية التي اتخذتها الأقليات الدينية والفئات الاجتماعية السورية.
حاليًا، تواجه الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الدولية والقانون الدولي اختباراً هاماً للمصداقية. فهل ستكون هناك شجاعة كافية لتحمل المسؤولية؟
بقلم : غيث الصفدي
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|