محليات

"حربٌ بعد الحرب"… نارٌ تُعرّي الجنوب وذراعٌ طويلةٌ تقطع طريق الإعمار

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تتحرّك إسرائيل في جنوب لبنان بمنطق "المعركة النظيفة" التي لا تترك آثارها فورًا.. حرائقٌ متكرّرة في الأحراج والكروم تُفقد الأرض غطاءها النباتي وتُعري التضاريس، وضرباتٌ دقيقة تستهدف معدّاتٍ مدنية في ورش الترميم، حفّاراتٌ وجرّافات، تجعل فكرة العودة إلى البيوت مجرّد مشروع مؤجَّل. هكذا تتكوّن طبقات “حرب ما بعد الحرب".. نارٌ تُبدّل الجغرافيا و"يدٌ" تقطع أوصال الإعمار، فيما الهدنة الهشّة تُختبر يوميًا على خطوط تماسّ لا تُرى إلا من دخانها وبقاياها.
في ملفّ الحرائق، لا تحتاج الصورة إلى كثير من الشرح. تقارير ميدانية وبيئية وثّقت منذ 2023 استخدام ذخائر حارقة، بينها الفوسفور الأبيض، في مناطق واسعة من الجنوب، بما أدّى إلى أذى مباشر للمدنيين وإشعال مساحات من الأحراج والحقول. تؤكد منظمة"هيومن رايتس ووتش" أنّ الذخائر الفسفورية استُخدمت في ما لا يقلّ عن 17 بلدة جنوبية منذ تشرين الأول 2023، بعضها فوق مناطق مأهولة، فيما تُظهر قواعد بيانات النزاعات تصاعد حرائق الغابات والأراضي الزراعية على جانبي الحدود مع اشتداد المواجهات في 2024. هذه ليست "أضرارًا جانبية" فحسب؛ إنّها هندسة قسرية للمشهد الطبيعي تقلّص الغطاء الشجري الذي طالما مثّل ستارًا بصريًا ومجالًا حياتيًا سواء لعمليات عسكرية او حتى لأهالي المنطقة، في أعمالهم الزراعية.

على الضفة الأخرى، تأتي الإشارات الميدانية لتكمل الصورة: طائرات مُسيّرة تضرب حفّاراتٍ تعمل على شقّ طرقٍ فرعية أو إزالة ركام وإعادة تأهيل شبكات؛ حادثةٌ موثّقة حديثًا في ربّ الثلاثين (قضاء مرجعيون) أصابت حفّارةً مدنية، في حلقةٍ من استهدافات باتت "اعتيادية" خلال الأشهر الماضية وفق تغطيات محلية متواترة. مثل هذا الضغط يُجمّد ورش الترميم ويُرغم أصحاب المعدّات على التوقّف، ليس فقط خوفًا من خسارة الآلة، بل تحسّبًا لمسارٍ سياسيّ وأمنيّ غامض، حيث يصبح كلّ "لوْدَر" أو حفّار قابلاً للقراءة بوصفه "هدفًا محتملًا" لا أداةَ إعمار. قانونيًا، تُعدّ هذه المعدّات أعيانًا مدنية يحظر استهدافها ما لم تُستخدم لأغراض عسكرية مباشرة، وهو عبءُ إثباتٍ لا تُلبيّه عبارة "الاشتباه" الفضفاضة.

ولأن الرغبة في الردع ليست بيئية ولا عمرانية فحسب، تحضر أدوات الترهيب النفسي كجزء من "عقيدة ضغط" مستمرة: تحليقات منخفضة تُطلق "انفجارات صوتية" فوق التجمعات السكنية، وإلقاء قنابل صوتية من مُسيّرات قرب مواقع حسّاسة ودوريات أممية، ما دفع الأمم المتحدة إلى التحذير أكثر من مرة وتوصيف بعض الوقائع بوصفها من أخطر الحوادث ضدّ قواتها منذ ترتيبات وقف النار. حتى حين تُساق ذرائع "التحذير لمشتبه به"، تبقى النتيجة واحدة: تعميم الخوف وتعطيل الحركة الطبيعية لمجتمعاتٍ تحاول أن تستعيد حياتها.
حصيلة هذين المسارين، إحراق الغطاء الطبيعي وقطع طريق الإعمار، تتجاوز الكلفة اللحظية إلى استراتيجية استنزاف طويلة: أرضٌ مكشوفة أصعب على الدفاع وأسهل على الرصد، وعمليات إعادة بناء تتعطّل عند أول ضربة لمعدةٍ مدنية، وسكانٌ يُعادون إلى المربّع الأول كلّما بدأوا بتركيب بابٍ أو ترميم سقف. في مثل هذا السياق، تُصبح مهمة التوثيق (صور الأقمار، سجلات الحرائق، إحداثيات الضربات، شهادات المقاولين) ليست ترفًا حقوقيًا بل ضرورةً سياسية وقانونية، إذ يترتّب عليها تعريف ما يجري: أمنٌ "استباقي" أم سياسة منظّمة لمنع العودة وإفراغ المكان من وظيفته السكنية والزراعية؟

على الأرض، يختصر مقاولٌ من مرجعيون المشهد في عبارة واحدة: "العمل صار مقامرة… لا أحد يريد أن يكون المرة المقبلة على قائمة الاستهداف". وبينما ينتظر الأهالي "أسبوعين" أو "قرارًا" كي تتضح صورة "حصر السلاح" وسائر بنود التسوية، تتقدّم النار حيث ينسحب الظلّ، وتتأخّر إعادة البناء حيث تُستهدف أيدي البنّائين. هكذا تُدار "حرب ما بعد الحرب" بقليلٍ من الضجيج وكثيرٍ من الأثر، على الأشجار التي تحترق، وعلى الحديد الذي يتوقّف، وعلى العائلات التي تحبس أنفاسها قبل أن تُشغّل مولّد الإسمنت من جديد.
بولين ابو شقرا - "لبنان 24"

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا