أكثر من مئة ألف مهجَّر بلا خيمة: ملحمة السويداء تكتب درس الكرامة
هل يستطيع العالم أن يستوعب معنى أن يُهجَّر أكثر من مئة وخمسين ألف إنسان من أرضهم وبيوتهم، من غير أن تُنصب خيمة واحدة أو يُقام مخيّم لجوء واحد؟
إنها ليست قصة عابرة، ولا حادثة طارئة، بل مشهد استثنائي يليق أن يُدوَّن في سجل الإنسانية، عنوانه: الدروز والكرامة التي لا تُقهر.
في السويداء لم ينتظر الناس تدخّل المنظمات، ولم يتسابقوا إلى خيم الإغاثة، بل ارتفعت بيوتهم لتكون أوطانًا بديلة، وامتدّت موائدهم لتصبح جسور حياة.
كل بيت صار مأوى، كل مضيف صار خيمة، وكل عائلة تبنّت عائلة أخرى. هكذا تحوّلت الجغرافيا إلى عائلة واحدة، والبلدة إلى مضيف كبير، والهوية إلى راية تجمع الجميع تحت ظلّها.
حين نعود بالذاكرة إلى نكبة فلسطين عام 1948، نجد أن ملايين البشر حُشروا في خيام أُقيمت على عجل، لتتحوّل مع مرور الزمن إلى مخيمات بؤس ما زالت قائمة حتى اليوم.
وفي العراق بعد 2003، ثم في سوريا بعد 2011، ارتفعت المخيمات على امتداد الحدود، وصارت الخيمة رمزاً لمعاناة طويلة الأمد، يطاردها البرد شتاءً والحرّ صيفاً.
أما في لبنان، فقد خبرت العائلات النازحة من الجنوب مرارة الخيام خلال الحروب، لتكتشف أن الخيمة مهما علت تبقى رمزاً للهشاشة واللااستقرار.
لكن في السويداء، حيث يسكن الدروز، انقلبت الصورة: 150 ألف نازح ولم تُنصب خيمة واحدة. لأن ثقافة الدروز لا تقبل أن يُذلّ الإنسان تحت سقف قماش، ولأن البيت عندهم ليس جدراناً فحسب، بل هوية وكرامة وملاذ.
في زمن يفيض بالشعارات عن حقوق الإنسان، يخرج الدروز ليقدّموا درسًا عمليًا: أن الكرامة لا تُستَجدى، وأن التضامن لا يُقاس بعدد الخيام ولا بحجم المعونات، بل بالقلوب التي تتّسع، وبالأبواب التي تُفتح، وبالقدرة على تحويل المحنة إلى ملحمة.
لقد قالوا بلسان حالهم: لسنا بحاجة إلى خيمة زرقاء ولا إلى بطاقة إغاثة، نحن نكفي أنفسنا بأنفسنا، ونحمل جراحنا بكرامة، ونصنع من صمودنا هوية باقية.
من يعرف تاريخ الدروز يعلم أن ما حدث اليوم ليس جديدًا عليهم. فهم أبناء جبل العرب الذين قادوا الثورات وصمدوا في وجه الغزاة، ولم يحنوا رؤوسهم يومًا إلا لله.
واليوم، يُثبتون أن الكرامة ليست شعارًا في الكتب، بل ممارسة يومية، وأن التضامن ليس خيارًا عابرًا، بل قدرًا وهوية.
يا أبناء السويداء، يا من حوّلتم المحنة إلى رسالة، والمأساة إلى معجزة، أنتم تقولون للعالم أجمع:
الوطن ليس حدودًا على الخريطة، بل بيتٌ يفتح أبوابه للجميع.
والكرامة لا تُمنَح من الخارج، بل تُصان من الداخل.
والتضامن لا يُدرَّس في الجامعات، بل يُعاش في الأزمات.
ليتعلم الكون من الدروز: أن النزوح لا يعني الخيمة، وأن التضامن ليس صدقة، بل ثقافة وهوية.
هذه الأقلية الصغيرة تحمل درساً كبيراً للبشرية: أنها تستحق الحياة، وتستحق أن يحميها المجتمع الدولي، لا شفقةً عليها، بل إيماناً بأنها نموذج نادر للكرامة الإنسانية في زمن تكدّست فيه الخيام وضاعت فيه القيم.
سمير خداج - القناة 23
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|