من السفيرة الأميركية.. رسالة إلى اللبنانيين بعد انتهاء مهامها
صخرة تهز دولة..
"حبيبي بيحب التِّش، عالروشة بيقلّي مش، وإن ما خدتو عالروشة بالبيت بيعمل دوشة..."
بهذه الكلمات الخفيفة غنّت هدى روحانا قبل نصف قرن عن الروشة كمقصد للفرح والنزهة والحب. لكن الروشة التي ألهمت الغناء والرومانسية، عادت هذا الأسبوع لتصنع "دوشة" من نوع آخر، لا علاقة لها بالغزل الشعبي، بل بالاستفزاز السياسي وكسر قرار الدولة.
فالحدث الذي بدا بسيطاً في شكله – رفع صور على صخرة الروشة – تحوّل إلى قضية وطنية أثارت الجدل في الإعلام والسجال في السياسة. هنا يبرز السؤال الجوهري: كيف يمكن لدولة أن تهتزّ من تفصيل كهذا؟ ولماذا يصبح أي مشهد رمزي اختبارًا لوجودها؟
في بلد مثل لبنان، كل طائفة تسعى إلى شدّ العصب الداخلي عبر الاستحواذ على الرموز العامة. لا يهمّ إن كان ذلك على شاطئ أو في ساحة أو عند معلم طبيعي. المهم أن يُقال للآخرين: "نحن هنا"، حتى لو كان الثمن كسر قرار رسمي. قرار رئيس الحكومة بعدم استخدام الأملاك العامة بدا كأنه امتحان مباشر: هل تستطيع الدولة أن تفرض كلمتها؟ والجواب أتى سريعاً: لا.
هذا النمط ليس جديدًا. فمنذ عقود تُستعمل الرموز الوطنية لتثبيت مواقع الطوائف في معادلة السلطة. لكن الخطورة تكمن في أن هذه الرموز – التي يُفترض أن تكون جامعة – تتحول إلى أدوات انقسام. الروشة، صورة بيروت أمام العالم، صارت فجأة ساحة استعراض طائفي. وما يحدث هنا يعيد إلى الأذهان ما جرى في تجارب دول أخرى: في البوسنة والهرسك بعد اتفاق دايتون، تحولت الرموز والمناطق الحساسة إلى أدوات تقسيم بين المكوّنات الطائفية؛ في العراق بعد 2003، صارت الساحات والشوارع مرآة للقوة الميليشياوية، لا لسلطة الدولة؛ واليوم، في لبنان، يتكرر المشهد: الرموز العامة تُستباح لتغذية العصبيات، فيما الدولة تتفرج.
وكما قال عالم الاجتماع ماكس فيبر: "الدولة هي الكيان الذي يحتكر العنف الشرعي". لكن في لبنان، هذا الاحتكار توزع بين الطوائف، فتحولت الدولة إلى متفرج يفتقد إلى أدوات الردع. أما القانون، الذي يفترض أن يكون مثل الموت فـ "لا يستثني أحدًا" كما كتب مونتسكيو، فيبقى في لبنان خاضعًا للإستثناءات.
اللافت أيضًا أن الأحداث الصغيرة هنا لا تبقى صغيرة. يتم تضخيمها إعلاميًا وسياسيًا، لكن هذا التضخيم ليس عفويًّا. هو جزء من لعبة واعية لإعادة شدّ العصب الطائفي، خصوصًا مع اقتراب الإستحقاقات الإنتخابية. فكل فريق يفتش عن صورة أو مشهد أو حادثة تُظهر لجمهوره أنه الأقوى، حتى لو كان الثمن مزيداً من إضعاف صورة الدولة.
الروشة، التي غنّت لها فيروز "لبيروت... إلى صخرةٍ كوجه بحّار قديم"، ليست مجرد معلم طبيعي. هي رمز وطني وسياحي. حين تتحول هذه الرموز إلى أدوات استقطاب، تفقد معناها الجامع وتصبح ساحة إنقسام. وكما قال ألبير كامو: "لا يمكن للإنسان أن يظل محايدًا حين يُداس العدل تحت الأقدام". فكيف يمكن لدولة أن تبقى محايدة أمام دوس قراراتها بوضوح؟
الدرس الذي تقدمه حادثة الروشة هو أن لبنان يعيش في دولة تهتزّ من أصغر الأحداث. قد يبدو ذلك "طبيعيًا" في نظام طائفي، حيث تُضخّم التفاصيل عمدًا لإعادة إنتاج الولاءات. لكن الطبيعي في منطق الطوائف ليس مقبولاً في منطق الدولة. الدولة لا تُبنى على التسويات الظرفية، ولا على التغاضي عن الاستفزازات، بل على سيادة القانون والمساواة أمامه.
الروشة صنعت "دوشة" هذا الأسبوع، لكنها لم تزعج العشاق كما في الأغنية، بل أزعجت فكرة الدولة نفسها. والرسالة التي تخرج من بين الأمواج واضحة: ما لم يُعاد الاعتبار إلى الدولة كمرجعية فوق الجميع، ستبقى الأملاك العامة مسرحًا للاستفزازات، وستبقى الدولة فكرة مؤجلة، لا كيانًا ثابتًا.
د.بولا أبي حنا -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|