في الشويفات، البلدة التي اعتادت أن تصحو على ضجيج المدارس وضحكات التلاميذ، استفاقت أمس على صمتٍ ثقيل. صمتٌ خرج من بيت آل حيدر، وتمدّد في الشوارع، بين الناس الذين ما زالوا غير مصدّقين أنّ رباح، ابن السبعة عشر عاماً، أنهى حياته بطلقةٍ من مسدس عند السادسة صباحاً.
كتب رسالة قصيرة لأصدقائه "إن شاء الله تتذكروني بطريقة منيحة، وأنتو بتعرفوا أبي شو صار معه..."، ثم مضى. جملة واحدة، بسيطة، كأنها اعتذار صغير من شابٍ حمل وجعاً أكبر من عمره.
رباح، تلميذ البكالوريا في مدرسة "أمجاد"، هو نجل رئيس بلدية الشويفات الراحل زياد حيدر، الذي خسره قبل عام بعد معركةٍ مع السرطان. كان الأقرب إلى والده. بعد رحيله، بدا كأنه ترك رباح في منتصف الطريق: ابنٌ فقد مرشده، وبيتٌ لم يعد يعرف صوته القديم.
المدرسة نعت تلميذها بكلماتٍ متقطّعة. المربّون تحدّثوا عن شابٍ مؤدّب، عاقل، مهذّب، لا شيء في ملامحه كان ينبئ أن عاصفة كانت تهبّ في داخله. لم يكن انطوائياً ولا غريب الأطوار.
أما أصدقاؤه، فبقوا في دوّامة إنكار. كيف يمكن لمن كان يضحك في الصف قبل أيام، أن يقرّر فجأة المغادرة؟ تذكّروا نكاته، صوته في الملعب، وطريقته في الحديث عن والده حين يُذكر اسمه.
رحل رباح في لحظة ضعفٍ لا تشبهه، ولا تشبه عمره ولا ابتسامته التي عرفها زملاؤه. رحل قبل أن يتعلّم أنّ الحزن، مهما طال، لا يُعاش وحيداً. ترك خلفه سؤالاً واحداً يطارد الجميع: من يسمع أولادنا حين يصمتون؟
الشويفات اليوم ليست كما كانت أمس. هناك مقعد فارغ في صفّ البكالوريا في "أمجاد"، وبيت لا يُسمع منه سوى البكاء، وبلدة تتأمل صورة فتى على لافتة نعي، لتدرك أن هذا الجيل، مهما بدا قوياً، هشّ من الداخل... هشّ بما يكفي ليكسر نفسه بصمت.