رجي والشيباني وصناعة التاريخ
أظهر وزيرا الخارجية في لبنان وسوريا يوسف رجي وأسعد الشيباني خلال لقائهما الأخير في بيروت كل مظاهر الانسجام. وبدا أن كلًّا منهما يعرف الآخر قبل اللقاء، وهذا بالفعل واقع الحال بينهما. ويوضح الوزير اللبناني أن مناسبات عدة جمعت بينه وبين نظيره السوري منذ أشهر كانت كافية لنسج علاقات شخصية فتحت الأبواب ليس بين وزيرين فحسب، وإنما بين بلديْن عاشا على مدى عقود تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، علاقات ملتبسة بلغت ذروتها في حقبة الحكم الأسدي لسوريا والتي استمرّت نصف قرن.
يكشف الوزير رجّي أن سوريا الجديدة التي انطلقت في بداية كانون الأول الماضي، تكافح من أجل بناء مؤسساتها من نقطة البداية. ويواجه لبنان تحدّيًا كي يجعل مؤسساته تعمل من جديد وسط صعوبات هائلة على كل المستويات. ويستطيع رجي أن يتحدّث طويلًا عن الإمكانات المتواضعة جدًا التي بحوزة وزارة الخارجية، التي خرجت مثل سائر المؤسسات مهشمة منذ أن ضرب زلزال الإفلاس لبنان عام 2019. ناهيك عن زلزال أخطر يمتد منذ العام 1975 عندما انهارت الدولة وأصبحت الخارجية اللبنانية تباعًا فرعًا للخارجية السورية.
بدأ لبنان وسوريا منذ أشهر مسارًا جديدًا. وأتت زيارة الشيباني الأخيرة لبيروت لتؤكد أن هناك دولتيْن خرجتا للتو من حقبة ظلامية أرادت أن تجعل من سوريا معقلًا ديكتاتوريًا ليس في سوريا فحسب، وإنما في المنطقة ولاسيما الجوار وتحديدًا لبنان. وتمّ تدشين المسار على يديّ فريقيْن حاكميْن في البلديْن يشبهان التغيير التاريخي فيهما. ويستحق كل من رجي والشيباني القول إنهما من روّاد هذا التغيير، كلّ في مساحته وخصوصياته.
حضر الشيباني إلى بيروت لمتابعة ملفات أبرزها الحدود والموقوفين والتنسيق الأمني. وأدرك المسؤولون اللبنانيون الذين التقاهم، وفي مقدمهم رجي، أن قرار حكم الرئيس أحمد الشرع هو الذهاب إلى النهاية في إقامة علاقات فاعلة وتصفية كل رواسب الماضي. ويذهب رجي إلى القول إن مصلحة لبنان العليا الآن هي في إعادة الموقوفين السياسيين السوريين إلى بلدهم من دون إبطاء.
كيف وصل رجي الى الخارجية التي كانت دمشق تصرّ على إدارتها حتى أتى زلزال انهيار نظامها السابق وفرار الديكتاتور تحت جنح الظلام في 9 كانون الأول الماضي؟ وكذلك، كيف وصل إلى خارجية سوريا رجل من جماعة كانت حتى أمد قريب موصوفة بالإرهاب؟ وإذا بنا نفاجأ بأن وزير خارجية دمشق الجديد مسؤول كأنه أمضى عقودًا في العمل الديبلوماسي وليس محاربًا وصل من خنادق ادلب.
شاءت الاقدار وكانت مشيئتها مدهشة. ونستطيع القول بما يتعلق بلبنان أن وزير الخارجية أتى منذ عقود إلى سلك الوزارة نتيجة الكفاءة. لكن في زمن الوصايات وآخرها الوصاية الاسدية، ما كان لرجي ولأمثاله في هذه الوزارة أو سواها أن يصل إلى ما وصل إليه حاليًا، إلا نتيجة "كفاءته" في الالتحاق بالنظام السوري. وهكذا تعاقب على الخارجية من هم بالاسم لبنانيون، لكن جلّهم وفي المضمون، من رعايا النظام الاسدي المخلصين. وحاول على سبيل المثال لا الحصر الوزير فارس بويز إيجاد شيء من الاستقلالية للخارجية اللبنانية لكن كانت الصعوبات جمّة.
منحت الأقدار لبنان فرصة ثمينة كي يعود دولة حرة كما يجب. وأعطى رجي مثلًا كيف تكون الدولة الحرة. وأتت زيارة علي لاريجاني الامين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي في إيران الأخيرة لبيروت لتثبت أن لبنان يعيش زمنًا جديدًا. فقد تحرّك وزير الخارجية فور علمه بنبأ زيارة المسؤول الإيراني واقترح على رئيس الحكومة نواف سلام منع لاريجاني من دخول لبنان على خلفية تصريح أدلى به الأخير عشية الزيارة، وهاجم فيه الحكومة اللبنانية. طبعًا، ليس كلّ ما هو قرار سيادي يمكن اتخاذه، فكان أن أتى لاريجاني، لكن رجي أعلن مسبقا أنه لن يستقبله إذا ما طلب لاريجاني ذلك.
على الضفة السورية، وفي إطلالة إعلامية أمس، أعلن الوزير الشيباني أن التحول الذي نراه في الدبلوماسية السورية هو نقطة تحول أساسية في تمثيل سوريا بشكل لائق وطبيعي.
وقال: "نعمل على معالجة آثار الدبلوماسية للنظام البائد التي اعتمدت على الدبلوماسية الابتزازية، واستطعنا تحويل الدبلوماسية السورية إلى دبلوماسية منفتحة على الحوار والتعاون. النظام البائد شوّه صورة سوريا والسوريين في لبنان، واليوم نحن نحاول تصحيح هذه السياسة. نحاول حلّ ملف الموقوفين السوريين في لبنان ولاسيما الموقوفين هناك بتهم سياسية تحت ضغط النظام البائد".
جدد الشيباني موقف الحكومة السورية الرافض لأي شكل من أشكال التقسيم أو الفيدرالية، مؤكداً أن هذا المبدأ "لا يحتاج إلى نقاش أو تفاوض"، وأن وحدة الأراضي السورية خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
وأكد الشيباني أن إسرائيل تحاول فرض واقع جديد في المنطقة مستغلة التغيرات التي شهدتها سوريا خلال السنوات الماضية. وأوضح أن الممارسات الإسرائيلية تهدف إلى تعزيز حالة عدم الاستقرار في سوريا والمنطقة عمومًا، في إطار مشروعها التوسعي المعروف.
قال الشيباني في الممارسات الإسرائيلية ما يجب قوله وهو الذي جلس في محادثات في العاصمة الفرنسية باريس مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر برعاية المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم برّاك، بهدف الحوار والتوصل إلى تفاهمات
أمنية بشأن جنوبي سوريا. قامت جوقة ممانعة في بيروت لتقول في الشيباني ما لم يقله مالك في الخمرة.
بدوره قال رجي في الممارسات الإيرانية ما يجب قوله، مبديًا في الوقت نفسه استعداد لبنان لعلاقات ندية بين البلديْن إذا أرادت طهران. لكن الجوقة نفسها، شنّت ولا تزال حملة على وزير لم يأت من وصاية سورية بائدة أو هيمنة إيرانية ما زالت تحلم بالهيمنة على لبنان.
ابتسمت الأقدار ولا تزال في لبنان وسوريا ان يتحمل مسؤوليات الشؤون الخارجية وزيران في حقبة تأسيسية للبلدين. ما يفعله رجي والشيباني اليوم هو المساهمة في صنع تاريخ جديد لبلديهما.
أحمد عياش -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|