استقلال؟ عن أي استقلال عم تحكي؟
استقلال؟ عن أي استقلال عم تحكي؟... هكذا يبدأ زياد الرحباني بابتسامة تهكمية مريرة، كأنه ينظر إلينا ويهمس: كل عام نحتفل بكلمات فارغة على أرضٍ لم تَستيقظ بعد. نرفع العلم ونستمع لصوت فيروز يصدح:
"بحبّك يا لبنان… مهما صار"، ووديع الصافي يردد حنينه: "يا وطني… يا حبّي… يا وطني…. ولبنان يا قطعة سما... اسمك على شفافي صلاة". كلمات تعكس الشوق، لكنها لا تمنح الوطن استقلاله، ولا المواطن شعوره بأنه حر.
تخيلنا أنفسنا، مواطنين طبيعيين، نُعيّد عيد الاستقلال كما يفترض أن نعيشه: دولة واضحة، قانون واحد، قرار واحد، شعب يشعر بالسيادة، وجيش يحتكر القوة الشرعية. هذا هو الاستقلال الحقيقي، وليس مجرد تاريخ يُتذكر، أو مناسبة نغني فيها ونلوّن الشوارع.
أفلاطون في الجمهورية رسم المدينة الفاضلة: العدالة تطبق على الجميع، القانون يحكم بلا محاباة، والمواطنون سعداء لأن حقوقهم محفوظة. لبنان بعيد عن هذا النموذج، لكنه يواصل الاحتفال كما لو أنه صار واقعًا. نغني على أوتار الموال، نكرر الكلمات، ونحتفل بالاستقلال بينما السلاح غير الشرعي يقرر مصير الحرب والسلم، والجيش الوطني مكبّل، والمواطن يبحث عن أمانه في جدول يومه لا في قرار الدولة.
العالم من حولنا يتحرك بسرعة. السعودية تعيد رسم تحالفاتها ونفوذها الإقليمي، تركيا توسّع حضورها الدبلوماسي والعسكري، سوريا تعود تدريجيًا إلى طاولة القرار، والولايات المتحدة تعيد ترتيب أوراق الشرق الأوسط. نحن نغني عن الاستقلال، بينما الآخرون يبنون الأرض والقرار. تحالفات تتشكل، مصالح تُرسم، ونحن نعود إلى الوراء.
الاستقلال ليس فقط خروج الجيوش الأجنبية عن أرضنا جسديًا. جان بودان رأى أن السيادة تعني السلطة المطلقة داخل الدولة، لا يشاركها أحد. ريمون آرون شدّد على أن لا استقلال بلا احتكار القرار العسكري والسياسي. هارولد لاسكي رأى أن المواطن لا يشعر بالاستقلال إلا حين تُطبّق القوانين على الجميع بلا استثناء. لبنان يحتفل بالكلمات، بينما العالم يحرك مصالحه، ونحن نكرر الشعارات.
كل سنة نُعيّد الاحتفال بلا أي جديد، ولسنا مرتاحين على أي صعيد: اقتصاديًا، أمنيًا، اجتماعيًا وسياسيًا. الاستقلال الحقيقي يبدأ من إحساس كل مواطن بالأمان، من شفافية القرار، ومن قوة الدولة التي تحمي حدودها وتفرض القانون. نزع سلاح حزب الله وحصر القوة بيد الجيش الوطني ليس مجرد شعار، بل شرط أساسي لتطبيق الاستقلال الحقيقي ولبناء دولة طبيعية يعيش فيها المواطن حريته وكرامته.
فلنتخيل المدينة الفاضلة لأفلاطون في قلب بيروت، صيدا، طرابلس وجونية: دولة تحكمها العدالة، الجيش يحمي القانون، وكل مواطن يحتفل باستقلاله الخاص. نعيش الحرية ونشارك في القرار السياسي دون خوف. نغني ليس لأننا نحتفل بالتاريخ، بل لأن حياتنا هنا، في أرضنا، أصبحت فعلًا وطنية وحرّة...
وإلى أن نستعيد معنى السيادة كما كتبها الفلاسفة، وكرامة الدولة كما أرادها المؤسسون، وسلاحها كما يجب أن يكون في يد جيشها وحده… سيبقى استقلالنا مناسبة نحتفل بها أكثر مما نعيشها، ونردد لها الأناشيد أكثر مما نحميها.
كاسك يا وطن، وكل استقلال وانتو بخير… لكن يبقى السؤال المقلق: هل من الممكن فعلاً أن نعيش استقلالًا حقيقيًا في ظل هذا النظام المشتت، حيث تُقسم القرارات وتُشتت السيادة؟ أم أن الحل، كما فعلت بعض الدول التي استعاد مواطنوها حريتهم وعاشوا استقلالهم الفعلي، يبدأ بتغيير النظام نفسه؟ فلنفكر بهذا الأمر بجدية، فبدونه، تبقى كل الأناشيد مجرد صدى على أوتار مكسورة، وذكريات عن استقلال لم نعرفه إلا في التاريخ.
وكل استقلال… وإنتو بخير، إذا بقي في هذا البلد شيء نستطيع أن نتمنى له الخير.
د.بولا ابي حنا -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|