"مش حلوة"… و"مش من تراثنا"؟ زينة الميلاد بين رفض بصري وتجييش طائفي
من ساحة النجمة ووسط بيروت إلى الحمرا والأشرفية، تنشط البلديات والمتاجر والجهات الخاصة، في تركيب زينة الميلاد مع بداية موسم الأعياد. ورغم الظروف الاقتصادية القاسية التي يعيشها اللبنانيون، تبقى هذه الزينة طقسا جماعيا يعيد شيئا من الدفء والأمل، إلى مدينة أنهكتها الأزمات المتلاحقة، فتحول شوارعها وساحاتها إلى مسرح مفتوح للأضواء والمجسمات الميلادية. وهذا العام يكتسب المشهد رمزية إضافية مع الزيارة المرتقبة للبابا إلى لبنان في نهاية الشهر، ما دفع بالكثيرين إلى اعتبار الزينة مناسبة لإظهار صورة أكثر إشراقا عن العاصمة.
غير أن زينة هذا العام لم تمر كما جرت العادة، فالزينة التي علقت في وسط بيروت في 24 تشرين الثاني 2025 ، لم تكن مجرد عناصر تجميلية موسمية، بل تحولت خلال ساعات إلى مادة اشتباك طائفي، بعد حملة تهجم وسخرية شنها البعض، بزعم أن أشكال الزينة "هلاليات رمضانية"، و"تعد على المسيحية"، و"تشويه للهوية". لكن هذه الادعاءات سرعان ما تهاوت أمام أبسط قراءة بصرية، لتكشف أن الجدل قائم على سوء فهم لطبيعة الفن ورموزه، لا على حقيقة موضوعية، خصوصا أن الأشكال المستخدمة تحاكي طرزا فنية أوروبية كلاسيكية، من روما إلى أهم المدن التي تشهد احتفالات الميلاد حول العالم.
جهل للفن
ويعكس هذا الواقع ما يؤكده عادل، وهو طالب في كلية الفنون الجميلة، الذي يرى أن "الجدل على الإنترنت يظهر جهلاً أساسياً بالفن، فالزينة مستوحاة من الطرز الباروكية والروكوكوية الأوروبية، وهي مجرد احتفال بصري بالميلاد. من المؤسف أن يتحول الفن إلى مادة خلاف على مواقع التواصل، بينما الهدف منه إدخال البهجة والضوء إلى المدينة".
ويأتي على نفس الخط جورج، الذي قضى عيد الميلاد في روما العام الماضي، ويقول: "احتفلت بالميلاد في روما، ورأيت كيف تتحول الشوارع والساحات إلى عروض فنية رائعة، من الأضواء إلى المجسمات الباروكية التي تملأ الكنائس والساحات العامة. واليوم شعرت أن زينة وسط المدينة تحاول إعادة نفس التجربة البصرية، وهذا شيء رائع، رغم كل الجدل الذي حصل على وسائل التواصل، الفن هو فرحة مشتركة، لا ساحة للجدل الطائفي".
بدورها، تضيف ليان التي تستعد للسفر إلى إيطاليا لدراسة التصميم: "أنا متحمسة لرؤية كيف تحتفل روما بالميلاد، وأرى أن زينة وسط بيروت ليست سوى محاولة لتقريب تجربة الجمال والفن الأوروبي إلى مدينتنا، لا أكثر، والجدال على الإنترنت يبدو لي مضخما بلا سبب" .
ومن وجهة نظر السكان المحليين، تقول سمر وهي موظفة في القطاع العام "أشعر بالفرح عند المرور بالمنطقة، حتى مع كل هذه الحملة على الإنترنت، الألوان والأضواء تجعل الشوارع تنبض بالحياة، وتعيد بعض الأمل في أوقات صعبة".
ويشاطرها الرأي العم ضياء وهو من سكان المنطقة، مؤكدا أنني "معتاد على الزينة منذ طفولتي، وأرى فيها استمرارية للهوية البيروتية الاحتفالية".
الطراز مُستخدم في المدن الكاثوليكية منذ القرن السابع عشر
وفي هذا السياق، يوضح الخبراء أن قراءة المشهد بدون إدراك للخلفية الفنية والتاريخية، تؤدي إلى سوء فهم فادح، فالزخارف هنا ليست رمزية دينية محلية، بل تعكس تأثيرا فنيا كاثوليكيا تاريخيا، تم نقله إلى بيروت في سياق احتفالات موسم الأعياد وزيارة البابا المرتقبة.
وتتفق مع هذه الآراء ملاحظات المهندسين والخبراء الفنيين ، الذين يشيرون إلى أن الزينة المعروضة لا تمت بصلة لأي نمط من أنماط الزخرفة الإسلامية، فهي تخلو تماما من العناصر التقليدية التي تميز هذا الفن، مثل الهلال والنجوم، الخط العربي، الهندسات المتماثلة، أو الأقمشة المشرقية المعروفة كالفانوس والخيامية، كما أنها لا تحمل أي صلة بالفنون السريانية او المارونية أو الشرقية، إذ لا تتضمن صلبانا أو أيقونات أو نقوشا سريانية، ولا أي عناصر ليتورجية أو رموز دينية من التراث الكنسي المحلي، مما يجعلها زينة مستقلة في تصميمها وجماليّتها، بعيدا عن أي إشارات دينية أو تراثية محددة.
ويعزز هذا التحليل ما يؤكده المهندس في التنظيم المديني والمختص بالعمارة الإسلامية والرمزية البصرية الدكتور محمد مهدي قصير، اذ يقول أن "الزخارف المضيئة المنتشرة في وسط بيروت ليست إسلامية إطلاقا، بل تنتمي إلى فنون الباروك والروكوكو الكاثوليكية الإيطالية، وهي نسخة شبه حرفية عن Luminarie، الأقواس الضوئية التي تزين المدن الإيطالية في جنوب البلاد خلال احتفالات القديسين".
ويضيف: "هذا الطراز مستخدم في المدن الكاثوليكية منذ القرن السابع عشر، ووجوده في بيروت يعكس رسالة بصرية موجهة أساسا للثقافة الكاثوليكية، ولا علاقة له بالمسلمين أو بمظاهر رمضان".
ويؤكد قصير أن "ما علق في بيروت تكوينات "Baroque" الباروك و"Rococo" الروكوكو صافية، تباع حتى اليوم عبر المصنعين الإيطاليين أنفسهم، ويمكن رؤية نماذج مطابقة لها في كنائس إيطاليا".
الهدف استخدام لغة بصرية مألوفة لدى الفاتيكان
وبحسب خبراء الفن والعمارة الأوروبية، ينتمي هذا النوع من الزينة إلى عصرين محددين:
ـ الباروك (القرن السابع عشر): فن كاثوليكي استخدم لإظهار قوة الكنيسة وتعظيم القديسين، ويمتاز بالانحناءات والتعرجات، الأشكال المتداخلة، الإضاءة الرمزية الساطعة، والزخارف المبالغ بها.
ـ الروكوكو (القرن الثامن عشر): أسلوب أخف وأكثر زخرفة يعتمد على التموجات، والتكوينات العضوية، والخفة البصرية، والألوان الفاتحة.
مصدر في بلدية بيروت رفض الكشف عن اسمه، أكد أن اختيار هذا الطراز الزخرفي لم يكن اعتباطيا، بل جاء ضمن التحضيرات غير المباشرة لزيارة البابا المرتقبة، موضحا أن الهدف كان استخدام لغة بصرية مألوفة لدى الفاتيكان، إذ تقرأ هذه الزينة فورا في الثقافة الكاثوليكية، وتستعمل عادة في الأعياد البابوية ومواكب القديسين، ما يعني أن ما اعتبره البعض "أسلمة" لم يكن سوى زينة كاثوليكية خالصة اختيرت لتكريم البابا نفسه".
يشار إلى أن أضواء"Luminarie" الاحتفالية تستخدم في ايطاليا، خصوصا في ليتشه ونابولي وسكرانو وبوليا، وقد أصبحت الأقواس الضوئية جزءا من الاحتفالات الكاثوليكية، مثل أعياد القديسين والميلاد ومواكب العذراء، لتزيين الشوارع والساحات، وخلق أجواء احتفالية مليئة بالفرح والنور، وهي تعبير عن التراث الفني والحرفي المحلي، وتعكس الفنون الباروكية والروكوكوية، وتساهم في تعزيز الهوية الثقافية والجذب السياحي، والتواصل الاجتماعي بين سكان المنطقة.
معركة هوية؟!!
ورغم الخلفية الفنية الواضحة للزينة، تحول الجدل حولها إلى معركة هوية تكشف أزمة أعمق بحسب أساتذة تاريخ الفن، فقد ساهم الجهل البصري وعدم المعرفة بالفن الغربي، والانغلاق الثقافي في لبنان، في صعوبة التمييز بين المدارس الفنية، ما سهل توظيف الزينة سياسياً وطائفياً، وسط فقاعات طائفية تحد من القدرة على إدراك التنوع الحضاري الغني للمدينة، من آثار رومانية وعمارة عثمانية، إلى كنائس غوطية وأديرة سريانية وعمارة حداثية.
خلاصة الجدل تكشف أن ما حصل ليس خلافا على الزينة ، بقدر ما هو صراع على المعرفة، فريق يصرخ دفاعا عن "الهوية المسيحية"، بينما يهاجم فنا مسيحيا كاثوليكيا أوروبيا، مستخدما أدوات خطاب طائفي مبنية على جهل كامل بتاريخ الفن والعمارة، ما أنتج فوضى بصرية وفكرية تستغل سياسيا ، وتحول كل تفصيل إلى فتيل فتنة. فالمشكلة ليست في الأقواس المضيئة، بقدر ما هي في العتمة المعرفية التي تحيط بقراءة الرموز في لبنان.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|