الصحافة

"Black Friday" على الطريقة اللبنانية...فوضى بنكهة الخصومات الوهميّة

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في بلاد العم سام، يبدأ "Black Friday" بعد أن يفرغ الناس من التهام ديك الحبش ويؤدّوا طقوس الامتنان للحياة. هناك يأتي يوم الحسومات الخيالية عقب "عيد الشكر" في آخر خميس من شهر تشرين الثاني. أمّا عندنا في لبنان، فتحوّلت "الجمعة السوداء" إلى شهرٍ كامل، رغم أن لا رابط يجمعنا بها لا بيولوجيًا ولا جغرافيًا ولا ثقافيًا. لكن، وكما هي العادة، ما إن تصلنا موضة غربية حتى نمنحها فورًا صفة "التراث" الذي ينبغي اللحاق به، فنستقبلها بحماسة طفل رأى لعبة صينيّة تومض وتصفر، ونعد أنفسنا بسماع تكسير الأسعار من بيروت إلى بيت الشعار، حتى لا نقول إلى دير بعشتار.

ولئن كان ديك الحبش غائبًا… فإن "ديك الأسعار" حاضرٌ ومتربّص. فجأة يتبدّل المشهد، فيغدو البلد بأكمله مهرجانًا من اللافتات، كأننا في موسم صيدٍ تجاري، ومن لا يستغلّ اللحظة يشعر أنه فوّت غنيمة ثمينة، ومن له عينان تراقبان الأسعار كل السنة يدرك أن "بلاك فرايدي" اللبناني يقف على "كمّ" دولار بالناقص ومن يدري قد يكون بالزائد!

لافتات تنافس الفطر

في بداية الشهر، تشعر أن لبنانيين غير معروفين يقومون ليلًا بنصب لافتات "Sale" على كل شيء: من الملابس إلى البطاطا المسلوقة. لافتات "خصم 70 %" تظهر على محالّ لم نرَ فيها زبونًا منذ 2008، وعلى بضائع لو لم تُعرض مع خصم لما عرف أحد أنها للبيع أساسًا. وتتدفق الرسائل النصيّة والواتساب والإعلانات طيلة شهر تشرين الثاني، لدرجة تجعل المواطن يشعر وكأنه مطلوب دوليًا، وكل إعلان يقول له ضمنًا: "نحن نعلم أنك ضعيف… تعال".

ومع الضغوط الاقتصادية، يقتنع الناس بأن أخذ خصم 20 % هو إنجاز يشبه توقيع اتفاق سلام، فيبدأ كلّ فرد يشعر بحماسة غير طبيعية، ربما لأنها المرّة الوحيدة في السنة التي يمكنه فيها تخيّل نفسه غنّيًا خلال 15 دقيقة فقط.

ساحة معركة

عندما تدق الساعة العاشرة، تُفتح أبواب "المول" أو محل الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، في مشهد يشبه إطلاق سراح مخلوقات أسطورية كانت محتجزة لقرون. يتدافع الناس بطريقة تجعل حتى حشود مباريات كرة القدم تبدو مؤدّبة. أصوات الموسيقى الصافية من سماعات المحالّ تخلق تناقضًا لذيذًا مع الصراخ والركض والدفع، فيبدو الجوّ كأن "حفلة كاريوكي" اندمجت بخطّة هروب من السجن.

الموظفون أنفسهم يدخلون مرحلة "Zen" متقدّمة، مرحلة يتصالحون فيها مع فكرة أن رواتبهم لا تبرّر هذا القدر من الدراما، لكنهم يستمرّون لأنهم لا يملكون خيارًا، ولأن الهروب فعلًا يتطلّب جواز سفر لا يملكونه. وفي مواقف السيارات كما على الطرق المزدحمة الجميع يصرخ: "اللّهم نجّنا من أوهام هذه الحسومات"، ويستمرّون باللهاث في إثرها!

قياس الرجولة بالبوصة

في ممر الشاشات التي تُشعرك بأن حياتك ستتغيّر، تصبح الأمور شخصية. كل عام، يشتري الناس شاشات جديدة، حتى من اشترى منهم شاشة قبل أسبوع. يبدو الأمر وكأنه فرض وطني. يتجادل الزبائن حول نصف بوصة وكأنها مسألة حياة أو موت، الناس يتقاتلون على أجهزة "4K"  وكأنها مفاتيح الجنة. يصرخ رجل بنبرة اكتشاف أثري: "شوفي هيدي! أكبر من شاشتنا بثلاثة سنتم!"، كأن كلّ سنتيمتر إضافي سيجعل حياته أكثر معنى ويرفع معدّل السعادة الوطني.

يتسابق اثنان على شاشة واحدة وتنتهي المعركة بسقوط التلفاز أرضًا بطريقة درامية. كلّ الموجودين يحدّقون به كأنه جندي سقط في ساحة الواجب. ثم، كأن شيئًا لم يكن، يسأل المتصارعان الموظف: "عندكن غيرو؟"، بنبرة من يطلب ماءً في الصحراء.

آلات بلا مستقبل

في قسم الأجهزة المنزلية تتخذ المعارك طابعًا أكثر فلسفيّة. ترى أشخاصًا يشدّون على علب كبيرة تحتوي آلات لا يعرفون أصلًا وظيفتها. هناك روبوت مطبخي معقد بخمسة وعشرين زرًا، يلتقطه رجل ضخم وكأنه يرفع كأس البطولة، بينما زوجته تخبره بأنها لا تطبخ أصلًا، فيجيبها بجديّة مضحكة: "مش مهم، يمكن هالماكينة تلهمنا نغيّر أسلوب حياتنا". والحقيقة أن هذه الآلات غالبًا ما تقضي حياتها محشورة فوق الخزانة إلى حين انقلاب سياسي أو كهربائي يدفع أصحابها للتفكير في بيعها على صفحات "السوق المفتوح". يحتشد الناس أمام آلات المطبخ التي يمكنها الخلط والفرم والعجن والتأمل، وربما التواصل مع الأرواح. إنه الروبوت الذي يعِد بكلّ شيء… ما عدا أن يُستخدم. إمرأة تسحب روبوت مطبخ من يد مراهق، يشعّ وجهها فرحًا غير مفهوم. يسألها الشاب ببراءة: بيعلّموكِ كيف يشتغل؟"فتجيبه بفخر: "مش مشكلة، رح اتعلّم".

طفل وسط مجنونَين

أما القسم المخصّص للألعاب فيملك طاقة مضاعفة. يدخل الأهل في حالة هستيرية كأنهم في مزاد على آخر مقعد في سفينة النجاة، ويبحثون عن ألعاب لم يسمع بها أطفالهم. الأغرب أن الأهل غالبًا ما يشترون لأطفالهم شخصيات لا يرغبون بها، فيقرّرون أن ابنهم سيصبح متيّمًا بالنينجا رغم أنه مهووس بالديناصورات. تحتجّ الجدة، تردّ الأم، يمسك الأب اللعبة المنتفخة كأنه يحمل سلاح دفاع عن النفس... والطفل ينظر إليهم بِحَيرة تتجاوز حدود الطفولة.

نعم... في قسم الألعاب، يتحوّل الأهل إلى نُسَخ عجيبة من أنفسهم، الصغير ينظر إلى والديه وهما يتشاجران حول لعبة النينجا، فيسأل جدته بهدوء: "ماما وبابا صاروا نينجا؟". تنظر الجدّة إليه بخبرة السنين وتردّ: "هيدي الـ "بلاك فرايدي" يا تيتا، عشنا وشفنا فيها الكبار كيف بيخسروا عقلُن. كرمال خصم تلات أرباعو وهم".

المنتَج الغامض

ثم يأتي القسم الغامض الذي يحتوي على منتَج عجيب لا يملك أحد تفسيرًا لوجوده، لكنه يحمل خصمًا خرافيًا يجعله محور صراع ملحميّ. هذا العام، المنتَج هو عصّارة حمضيات ورديّة على شكل زرافة. لا أحد يعرف كيف يستعملها، أو لماذا قد يريد امتلاكها، لكن الناس يتشاجرون عليها وكأنها تحتوي على نسخة سرية من علاج عالمي. الزبائن يمسكونها من زاوية الأذن، من القدم، من الذيل، وخصوصًا من الرقبة، ويتجادلون حول من رآها أولًا، رغم أنهم في العادة لا يشترون حتى برتقالًا.

الواقع بلا فلاتر

عند مغادرة المتجر، تبدأ لحظة الحقيقة الوجودية. يمسك البعض بعلب ضخمة لدرجة تجعلهم عاجزين عن رؤية الطريق، فيتساءل أحدهم بصوت منخفض بعد ساعة من اللعب بأزرار الصندوق: "شو اشترينا بالضبط؟". زوجته تنظر إلى العلبة نظرة مَن فقدَ الأمل وتقول: "فيني أعرف ليش جبت باربكيو كهربا ونحنا ساكنين بالطابق السادس؟"، فيجيبها بلهجة رجل يحاول إنقاذ ما تبقى من كرامته: "يمكن… يمكن ننتقل عبيت أكبر". وهكذا يتحوّل الشراء إلى فلسفة حول الحياة والمستقبل.

التوفيق على السوشال ميديا

في المنزل، تتجمع الغنائم فوق الطاولة، وتبدو كأنها معروضات من حفريّات "عصر الاستهلاك". يكتشف الناس أن ربع المشتريات لا يملكون مكانًا لها، والربع الآخر يعجزون عن استعماله، والباقي يندمون على شرائه فور فتح الصندوق. ومع ذلك، تجدهم يلتقطون الصُّور، يحمّلونها على السوشال ميديا، ويكتبون تعليقًا يختصر الفوضى: "كان نهار طويل بس توفقنا".

في النهاية، يبدو أن "بلاك فرايدي" لبنان ليس مجرّد موسم تسوُّق، بل "بروفة" سنويّة لفوضى غير منظّمة نمارسها بإرادتنا. نتسابق، نتدافع، نشتري، نتذمّر، ونعود للبيت مقتنعين أننا حققنا انتصارًا صغيرًا على الأسعار، رغم أننا نعرف جيدًا أننا سنكرر التجربة العام المقبل بالحماسة نفسها. في مكان ما، داخل عقل كلّ واحد منا، هناك رغبة غريبة في جعل حياتنا أكثر تعقيدًا… بسعر مخفض.


ريتا عازار - "نداء الوطن"

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا