في الذكرى السنوية الأولى لصدوره: رحم الله تفاهم 27 ت2؟
في مثل هذا اليوم من العام الماضي، احتفل اللبنانيّون والعالم بولادة «تفاهم 27 ت2 2024»، بضمانتَين دوليّتَين، أميركية من الرئيس جو بايدن، وفرنسية من الرئيس إيمانويل ماكرون. ولما اعتقد اللبنانيّون أنّهم دخلوا اليوم التالي للحرب، تبيّن أنّه «جمّد العمليات العدائية» ولم يرقَ إلى وقف للنار. وما زاد في الطين بلّة، أنّ المخاوف ازدادت من أن نضطرّ إلى نعي هذا التفاهم، الذي لم يُطبَّق في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، من دون أي رادع، ونزع الضمانات الأميركية التي حظيَ بها، وهو ما دلّت إليه كل الوقائع. وهذه عيّنة منها.
لا تُثبت الجردة التي يمكن أن يجريها أي مرجع عسكري، سياسي أو ديبلوماسي، أنّ التفاهم الذي منّن اللبنانيّون أنفسهم به قد دخل حيّز التنفيذ حتى الساعة. فكل الوقائع الجارية منذ ذلك التاريخ وما حملته من وقائع شبه يومية دامية، تُثبِت أنّه يمكن إيداعه إلى جانب التفاهمات الموسمية التي أُرِّخت على سبيل الحفظ في أرشيف أي دولة أو مؤسسة. والدليل الساطع، أنّه ما زال موضوع جدل وتفسيرات متناقضة حتى اليوم، لم يلتقِ حولها الخصوم وبعض الحلفاء الذين رأوا فيه كمّاً من الأخطاء التي تحول دون قراءة موحّدة لبعض بنوده، إمّا لأنّها تحمل الكثير من الغموض، أو أنّ تطبيقها الصحيح بات رهن موازين القوى المنهارة وغير المتكافئة.
وقبل الدخول في أية تفاصيل تعني المناسبة ومضمون التفاهم والظروف التي حالت دون تطبيقه وفق الآلية التي يُريدها اللبنانيّون، ناجمة عن خلاف كبير في تفسيرها، ولا سيما ذلك البند الذي قال إنّ للطرفَين إسرائيل و"حزب الله" الحق بالردّ على أي خرق أمني أو عسكري أياً كان شكله، من باب التوازن المفقود عملياً. ذلك أنّ الحزب فَقَد الساحة التي يمكنه أن يستخدمها في الردّ على آلاف الخروقات الإسرائيلية، نتيجة التفوّق الذي سمح لها القيام بما تريده من دون أي رادع إقليمي أو دولي.
ولا داعٍ للتذكير، بأنّ إسرائيل لجأت نتيجة التفوّق اللامحدود إلى آلية لم يكن يُقدِّرها أحد، ولا سيما أولئك الذين كانوا يعتقدون أنّهم يملكون "قوّة الردع الموازي" أو التكافؤ في موازين القوى العسكرية لفترة انتهت في الأيام الأولى للحرب. ومردّ هذه المعادلة، أنّ تل أبيب استندت في عملياتها إلى مضمون ما سُمِّيَ بـ "ورقة الضمانات الأميركية" التي نالتها من الرئيس بايدن ومن خلفه "الإدارة الأميركية العميقة"، بوجوهها الاستخبارية والعسكرية والديبلوماسية والمالية، على هامش التفاهم المحكي عنه ليل 26-27 ت2 2024 وفق التوقيت الأميركي. وهي ورقة جمعت في بنودها ما يكفي لتواصِل إسرائيل تحرّكاتها بحراً وبراً وجواً، ليس على الساحة اللبنانية فحسب، إنما في الساحات الملتهبة التي تمدّدت إليها سلسلة الحروب التي قادت إليها عملية "طوفان الأقصى"، فامتدّت جذورها إلى مَن التزم بـ"حرب الإلهاء والإسناد" في اليوم التالي، وتلك التي اعتمدت ما سمّته طهران منطق "وحدة الساحات" إذ بدا الإلتزام بها جزئياً، لمجرّد أن تفلّت منها البعض والتزم بها لبنان وحده من الجانب الشمالي لإسرائيل، وكل من اليمن جنوباً والعراق وطهران غرباً ولو بشكل موسمي ومتقطّع.
وإن حمّل البعض اليوم الدولة المسؤولية في ما آلت إليه الظروف وما انتهت إليه الحرب من كوارث ونكبات، عليه أن يُقرّ أنّ الدولة اللبنانية التي تخضع لامتحان التصدّي للعدوان الإسرائيلي وتداعياته، لم تكن طرفاً لا في الحرب ومجرياتها ولا في التفاهم ولا في ما سبقه عند إعلان الحرب ولا في مرحلة التهديد التي طالت لتواكب عامَين من الحروب المتقطّعة، وصولاً إلى التردّدات التي تركتها الهزيمة التي كرّستها وثيقة الضمانات الأميركية التي يتنكّر لها بعض اللبنانيِّين، بطريقة تجاهلت تداعياتها العسكرية التي فاقت بمخاطرها ما تسبّبت به بنود التفاهم الملتبسة. ولا سيما أنّ معظم تلك الفترة تزامنت مع خلو سدّة الرئاسة من شاغلها، بوجود حكومة تصريف الأعمال التي كانت تعمل على القطعة والمزاج الذي تحكّم بمكوّناتها الوزارية المتصارعة على خلفيات متشعّبة ومتعدّدة، ما أدّى إلى بقائها خارج حلبة المفاوضات في الحرب، مستندةً إلى دور "الأخ الأكبر"، رئيس مجلس النواب المفوّض من قبل "حزب الله" بالدور الذي لعبه.
ولا يُخفى على أي من المراقبين، أنّ التفاهم الذي قال في أبرز بنوده بحصر سلاح الحزب بقوى الجيش والقوى الأمنية الأخرى، وصولاً إلى شرطة البلدية، لم يكن جنوبي الليطاني فحسب، إنّما "بدءاً منه، في اتجاه باقي الأراضي اللبنانية، حيث تقع مصانع الصواريخ والطائرات المسيّرة، وعلى المعابر البرية والبحرية والجوية، وهو أمر بقي موضوع نزاع داخلي تردّد صداه في الأوراق المتناقضة التي سُلّمت إلى الموفدين الأميركيّين، ولا سيما تلك التي تسلّمها توم برّاك باسم "الثنائي الشيعي" في ثالث زيارة له إلى عين التينة، بعد أقل من ساعة على تسلّمه "ورقة لبنان الرسمية" من قصر بعبدا، التي أعدّتها لجنة خاصة جمعت ممثلين عن كل من رئيس الجمهورية ورئيسَي مجلس النواب والحكومة، عدا عن تلك الناجمة عن السموم التي بُثّت في بعض الدوائر الأميركية التي تحدّث عنها مؤخّراً كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، وإن كان قصد كل منهما لا يتلاقى وما قصده الثاني لجهة هوية مَن تولّى هذه المهمات.
على هذه الخلفيات، وعند التمعّن في أهمّية الذكرى السنوية الأولى للتفاهم، تُحصي المراجع الأمنية والعسكرية حصيلة الاعتداءات الإسرائيلية على أكثر من مستوى منظور وغير منظور. وإن قالت إنّ ضحاياها زادوا على 335 شهيداً وضحية، فقد انعكست على مختلف وجوه حياة اللبنانيِّين ومصالحهم. وإن انحصرت لائحة الشهداء والضحايا بالمسؤولين العسكريِّين وعناصر الحزب على مدى أيام السنة التي تلت الإعلان عن التفاهم، من دون تجاهل عدد المدنيِّين من بينهم الذين قتلوا بالصدفة أو أنّهم كانوا إلى جانب الشهداء والضحايا، فإنّ الخسائر الأخرى انعكست على الاقتصاد وعلاقات لبنان الدولية، عدا عن تجميد كل مشاريع المساعدات لإعادة الإنماء والإعمار ومواجهة الأزمة الإقتصادية إلى ما بعد عملية حصر السلاح، والإصلاحات الإدارية والقضائية والمالية التي طال انتظارها.
وإلى أن تنتفي الأسباب جميعها، فإنّ نعي التفاهم في مناسبة ذكراه السنوية الأولى لم ولن يكون مستغرباً ولا مستحيلاً، ولا تجنياً على أحد، لم يتمكن من تطبيقه والإفادة ممّا حمله من مناسبة نادرة للخروج من فصول الحرب. وقد سبق للموفد الأميركي إلى سوريا ولبنان توم برّاك في مرحلة مهمّته الموقتة في لبنان، أن نعى التفاهم ونزع عنه إمكانية تطبيقه في ظل انتفاء الضمانات الأميركية وغيرها، إن بقيَ اللبنانيّون قاصرين عن تسوية الوضع والتفاهم على آلية الخروج من مظاهر الأزمة ووحولها.
جورج شاهين - الجمهورية
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|