زيادة الطلب على الذهب وأسباب ارتفاع أسعاره
كتب العميد الدكتور غازي محمود :
تشهد أسعار الذهب في الأسواق العالمية ارتفاعًا حادًا غير مسبوق، لا بوتيرته ولا تقلباته، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن أسباب هذا الارتفاع، خاصةً وأن الذهب لا يُنتج سوى عوائد متواضعة، في حين ازداد الطلب عليه خلال العامين الماضيين، مما تسبب في ارتفاع أسعاره بشكل حاد. ويستمر الارتفاع خلال العام الحالي 2025 مع قفزات إلى مستويات قياسية، متحديًا بذلك العلاقة العكسية التقليدية مع أسعار الفائدة، خاصة في النصف الأول من العام.
وفي الوقت الذي لا يزال فيه دور الذهب التقليدي كمخزن للقيمة قويًا، يُسلّط ارتفاع أسعار الذهب الحالي الضوء على تعقيد ديناميكيات الاقتصاد العالمي، ويدفع إلى التساؤل عما إذا كان الارتفاع الأخير في أسعار الذهب سيستمر أم لا. علمًا بأنه لا يمكن تفسير هذا الارتفاع الحاد من خلال عامل اقتصادي واحد، بل هو نتيجة تداخل معقد لجملة من التطورات الجيوسياسية والمالية العالمية التي أعادت ترسيخ مكانة المعدن الأصفر كأحد أهم الأصول الآمنة. أما أبرز هذه العوامل:
١- تراجع الثقة بالدولار الأمريكي
يُعد ضعف الدولار الأمريكي أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى الارتفاع الأخير في أسعار الذهب، سيما وأن الذهب يُقوَّم عادةً بالدولار الأمريكي وترتبط قيمته عكسيًا بقيمة الدولار، فإذا انخفض الدولار ارتفع سعر الذهب، والعكس صحيح. وبالتالي، عندما تتراجع قدرة الدولار والأصول النقدية على حماية القيمة الشرائية، يصبح الذهب خيارًا أكثر استقرارًا لحفظ الثروة.
كما عزز التوجه نحو الذهب الأصفر، السجال بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والاحتياطي الفيدرالي بشأن السياسات النقدية، والذي خلق حالة من الشك بشأن استقلالية البنك المركزي الأميركي، فيما تجاوز الدين العام الأميركي مستوى الـ 37 تريليون دولار، الأمر الذي زاد من الشكوك حول إمكانية الوفاء به.
٢- المخاطر الجيوسياسية
لعبت المخاطر الجيوسياسية والصراعات العالمية واتساع نطاقها، لا سيما النزاعات في الشرق الأوسط، واستمرار الحرب في أوكرانيا، وارتفاع حدة التوتر في العلاقات الأميركية–الصينية، وصولًا إلى تعزيز الوجود العسكري الأميركي في منطقة البحر الكاريبي لمواجهة فنزويلا، دورًا حاسمًا في خلق مناخ من عدم اليقين، وساهمت في لجوء المستثمرين والدول على حد سواء إلى الذهب باعتباره الملاذ الآمن الأكثر موثوقية، الأمر الذي أدى إلى الارتفاع الأخير في أسعار الذهب، بغض النظر عن تحركات أسعار الفائدة وقوة الدولار أو ضعفه.
٣- حرب التعريفات الجمركية
وقد ساهمت الحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وزيادته الرسوم الجمركية في ارتفاع أسعار الذهب. فقد ارتفعت أسعار الذهب في نيسان/أبريل الماضي عندما كشف ترامب عن تعريفاته الجمركية بمناسبة "يوم التحرير" على معظم دول العالم، مما أدى إلى فترة من عدم اليقين الشديد بشأن مستقبل التجارة العالمية.
٤- إعادة تقييم دور الذهب في النظام المالي الدولي
ويندرج ارتفاع طلب المصارف المركزية وصناديق الاستثمار على الذهب وسعيها إلى تنويع احتياطاتها في إطار توجه النظام المالي العالمي التدريجي نحو تعددية نقدية أوسع، مع تراجع الهيمنة المطلقة للدولار. وفي هذا السياق، تعيد الدول والمؤسسات المالية الكبرى مراجعة دور الذهب كأصل استراتيجي طويل الأمد، الأمر الذي يزيد من الطلب عليه ويدعم ارتفاع أسعاره.
ويأتي ما يُعرف بـ "بيع العملات الورقية"، سواء كان الدولار أو اليورو، وعدم الثقة بهما لما تحملاه من ديون وتحديات اقتصادية داخل اقتصاداتهما، في إطار إعادة تقييم دور الذهب واعتبار أن البديل عن العملات الورقية هو اللجوء إلى الذهب.
٥- تزايد طلب البنوك المركزية
ولم يعد اللجوء إلى الذهب يقتصر على المستثمرين، بل أصبح منذ عام 2022 خيارًا شائعًا ومتزايدًا للصناديق الاستثمارية وللحكومات الأجنبية التي تجني من التجارة الخارجية مبالغ كبيرة من الدولارات الأميركية، في الوقت الذي تتراجع فيه ثقتها في العملة الأميركية والسندات الحكومية، الأمر الذي شكّل رافعة أساسية لأسعار الذهب.
وتُظهر البيانات الأخيرة أن مشتريات البنوك المركزية تجاوزت الـ 900 طن في أول 9 أشهر من السنة الحالية، لا سيما في روسيا والصين والهند وتركيا، وحتى بعض البنوك في الاتحاد الأوروبي. فقد زادت هذه الدول احتياطياتها من الذهب بشكل كبير، مما يعكس مخاوفها بشأن استقرار الدولار الأمريكي، ويأتي في سياق استراتيجية تنويع احتياطياتها وتقليل اعتمادها على الدولار، إضافة إلى التحوط من العقوبات المالية والمخاطر الجيوسياسية.
٦- تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي
تشير المؤشرات إلى ضعف في النمو العالمي، سواء في أوروبا أو الصين أو الولايات المتحدة، حيث ثمة توقعات باحتمال تراجعه ودخوله في ركود تضخمي. هذا التباطؤ ينعكس تراجعًا في شهية تحمل المخاطر، ويدفع المستثمرين نحو الأصول ذاتية القيمة، وفي مقدمتها الذهب.
٧- أسعار الفائدة
يرتبط الذهب وأسعار الفائدة بعلاقة عكسية، فكلما ارتفعت أسعار الفائدة، أصبح الذهب أقل جاذبية. ذلك أن أسعار الفائدة المرتفعة تعود على المدخرات النقدية بعوائد مجزية من خلال إيداعها أو إقراضها لقاء فائدة. في المقابل، إذا انخفضت أسعار الفائدة، تتدنى العوائد على المدخرات، مما يجعل الذهب أكثر جاذبية للاحتفاظ به. وينطبق الأمر نفسه على الأصول الأخرى ذات الفائدة، مثل السندات.
٨- استمرار معدلات التضخم المرتفعة
على الرغم من مساعي الدول للسيطرة على التضخم، لا تزال نسبه في العديد من الاقتصادات المتقدمة أعلى من مستوياته المستهدفة. فهذا التآكل المستمر للقوة الشرائية يعزز الطلب على الذهب بوصفه أداة تحوّط فعالة ضد التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية. سيما وأن الذهب كمعدن نفيس يُعرف بقدرته على الحفاظ على قيمته مع مرور الوقت، مما يجعله خيارًا جذابًا في أوقات التضخم.
خاتمة
إن الارتفاع القياسي في أسعار الذهب يعكس تحوّلاً عميقًا في بنية الاقتصاد العالمي وفي طبيعة المخاطر التي تواجهه. فالمعدن الأصفر لم يعد مجرد ملاذٍ آمن ظرفي، بل أصبح ركيزة استراتيجية للدول والمستثمرين على حد سواء. وفي ظل استمرار التوترات العالمية وتبدّل السياسات النقدية، من المرجّح أن يحافظ الذهب على مكانته القوية في الأسواق، ما لم يشهد العالم انفراجًا واسعًا يعيد الطمأنينة إلى النظام المالي الدولي.
أمام هذه الوقائع، من المستحسن أن يقوم صغار المستثمرين بتنويع محافظهم بين الذهب والفضة، للتحوط من مخاطر تراجعات جني الأرباح، والاحتفاظ بهما في ظل الوضع الاقتصادي والجيوسياسي العالمي، وما يعانيه العالم من تضخم. وفي الأثناء، على هؤلاء المستثمرين ترقب السياسات النقدية التي تنعكس على الذهب والطلب عليه، لمعرفة التوجهات المستقبلية.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|