عودة: لاعتماد الحوار عوض التقوقع والانفتاح عوض الحرب
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس. بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "نصا الإنجيل والرسالة اللذان سمعناهما يفتحان أمامنا بابا واسعا لفهم عمل الله العجيب في النفس البشرية. الله يدعونا من خلال نعمته إلى قيامة داخلية حقيقية، تعتق فيها قلوبنا من انحناء الخطيئة، وتستنير بنور المسيح الذي يبدد كل ظلام. فالرب الذي كان يعلم في المجمع، عندما رأى المرأة المنحنية منذ ثماني عشرة سنة شفاها، وهو نفسه يطلب من كل مؤمن أن يقف في حضرته ليشفى من انحناءات النفس والجسد، ويتذوق حرية أبناء الله".
أضاف: كانت المرأة، كما يصفها الإنجيل، منحنية لا تستطيع أن تنتصب البتة. هذا الوصف هو رمز لحالة الإنسان الساقط الذي أثقلته الخطيئة، كما يشرح القديس كيرلس الإسكندري، إذ يقول إن الشيطان حين يقيد الإنسان «يحنيه نحو التراب لكي لا يرفع نظره إلى الله». المشكلة ليست في الجسد وحده، بل في القلب الذي يفقد وجهته نحو العلى. حين يدخل الرب يسوع إلى المجمع، يقترب من المرأة، يلمس ضعفها، ويرفعها بكلمة واحدة، مطلقا إياها من مرضها. هكذا يعمل المسيح دائما: يقترب، ينظر، يشفق، ويقيم. لا يشفينا عن بعد، بل يدخل إلى جراحنا ويغير واقعنا من الداخل. في رسالته إلى أهل أفسس يحدثنا الرسول بولس عن هذه القيامة الداخلية نفسها، إنما من زاوية الحياة العملية. يقول: «أسلكوا كأولاد للنور». دعوة الرسول هذه ليست نظرية بل خلاصية. النور الذي يقيم المرأة المنحنية يصير نهج حياة، ومسارا يوميا يجاهد فيه المؤمن لكي يترك أعمال الظلام، ويثمر «ثمر الروح» الذي يذكره بولس في مواضع أخرى، أي الصلاح والبر والحق. فالتحرر من روح الإنحناء الذي قيد المرأة يوازيه السير الواعي في نور المسيح، نور يترجم سلوكا مقدسا".
وتابع: "رأى آباء الكنيسة في هذه المعجزة إعلانا واضحا عن عمل النعمة في الكنيسة اليوم. يشير القديس يوحنا الذهبي الفم إلى أن «المرأة المنحنية تمثل النفس التي انحنت تحت أثقال الشهوات والعادات الشريرة»، وأن الرب يقيمها بكلمته كما أقام المرأة، ليس لأنها تستحق، بل لأن رحمته سابقة لاستحقاقنا. وقد شدد الذهبي الفم على أن الوقوف في حضرة المسيح، بالصلاة والتوبة والأسرار، هو الطريق الوحيد لنيل هذه العطية. المسيح لا يرفع من يرفض أن يأتي إليه، بل يرفع كل من يتقدم إليه بتوبة وتواضع. مشهد رئيس المجمع في الإنجيل يذكرنا بأن هناك دائما قلوبا تستطيع أن تقف جسديا ولكنها منحنية روحيا. هذا الرجل الذي اعترض على شفاء المرأة يوم السبت يمثل العمى الروحي الذي يفضل حفظ القشور على خلاص النفوس. هو يرى الشريعة ولا يرى الرب، يعرف الحرف وينسى الرحمة. كثيرون اليوم قد يقعون في التجربة ذاتها، فيحافظون على صورة التقوى ويدعون حفظ الكلمة والحفاظ على الكنيسة أو الوطن، فيما أعمالهم شريرة، مظلمة، تسيء إلى الإنسان وإلى الكنيسة والوطن. أما المسيح، فهو يكشف أمام الحاضرين بأن تحرير الإنسان أهم بما لا يقاس من حرفية التفسير. يقول الآباء إن المسيح لم يأت ليبطل الناموس، بل ليظهر روحه وعمقه، أي الرحمة والشفاء والتجديد".
وقال: "في رسالته إلى أهل أفسس، يتابع الرسول بولس هذا الخط الروحي حين يطلب إلى المؤمنين ألا يشتركوا «في أعمال الظلمة غير المثمرة»، بل أن يختبروا «ما هو مرضي عند الرب». إن السير في النور ليس مجرد امتناع عن الشر، بل حركة إيجابية نحو الله. لذلك، يدعو بولس المؤمنين إلى الفرح الروحي والترنيم والإمتلاء من الروح القدس. يقول القديس مكسيموس المعترف إن «الإمتلاء من الروح» يعني أن يصير الإنسان كله موجها نحو الله، فلا يكون قلبه منحنيا نحو الأرض، وأفكاره مشوشة ونفسه متكبرة".
أضاف: "الحياة المسيحية اليوم تحتاج هذه الرؤية المتكاملة، إبتغاء الرب، طلب الشفاء، والسير في النور. نحن لا نأتي إلى الكنيسة لنحصل فقط على عزاء أو راحة، بل لنشفى من الإنحناءات العميقة التي تشوه صورتنا، ونستعيد إستقامة السلوك ونقاوة القلب. من ينال الشفاء الحقيقي، كما يعلم القديس إسحق السرياني، «لا يعود ينظر إلى الأرض كمسكنه، بل ينظر إلى فوق، حيث المسيح جالس». لذا، لا يكفي أن نطلب إلى المسيح إقامتنا من خطايانا، بل علينا أن نحيا بعد ذلك كقوم أقامهم الله. لعل أهم ما يواجه المسيحي اليوم هو الإنحناء الخفي الذي قد لا يظهر للعيان، إنحناء أمام هموم الحياة وضغوط العمل والإنشغالات المادية وقيود العادات التي تحول الإنسان إلى كائن متعب غير قادر على رفع نظره إلى الله. نعيش اليوم زمن سرعة وتشتت، يجعل القلب متعبا، كما لو أن روح الإنحناء الذي قيد المرأة قديما يحاول تقييد الإنسان المعاصر بطريقة أخرى، بالحقد والحسد والأنانية والثرثرة واللهاث وراء المكاسب والمراكز والمجد الأرضي، ولو على حساب الأخ أو الوطن أو الأخلاق. لذلك، يحتاج كل منا كلمة المسيح التي لا تزال تقال لنا كما قيلت للمرأة: «إنك مطلقة من مرضك». هذه الكلمة تقال في سر التوبة، وفي الإفخارستيا والصلاة وقراءة الكتاب المقدس، وفي كل موضع يقترب فيه الإنسان من الرب بإيمان. يذكرنا بولس الرسول بأن من نال نور المسيح عليه أن يحيا يقظا، لأن «الأيام شريرة». هذا النداء يضع أمامنا مسؤولية روحية كبيرة، أن نحافظ على النور في داخلنا، ونرفض كل ما يطفئه. فالنور المسيحي ليس معرفة لاهوتية أو أخلاقية، بل حياة تعاش في طاعة الروح القدس.
يشدد الآباء على أن النور الحقيقي يعرف بثماره التي تظهر حين يلمس المسيح قلب الإنسان كما لمس ظهر المرأة المنحنية".
وتابع: "دعوتنا اليوم أن نتذكر أن الشفاء عمل حاضر، وأن الله يريد إقامتنا وجعلنا شهودا لنوره في عالم متقلب مظلم. لكن، علينا أن نقترب منه بإيمان، ونطلب إليه أن يرفع قلوبنا المنحنية إلى فوق، ويعيد إلينا إستقامة القامة، ويملأنا من الروح القدس، لكي تصبح حياتنا تسبحة شكر وتمجيد".
وختم: "ولأن وطننا منحن بسبب ثقل ما عاناه من خضات وفراغات ومآس وحروب، وما ناله خلال عقود من زعمائه وحكامه وأحزابه المنشغلين بمصالحهم، غير آبهين بمصلحة الوطن، على أبنائه وحكامه وكل الزعماء والمسؤولين، الوقوف بتواضع وانسحاق أمام الله وضمائرهم، وطلب الشفاء من الإنحناء المزمن والأمراض الخبيثة، معلنين توبتهم عن كل المعاصي، وتغيير سلوكهم، وفتح صفحة جديدة مبنية على الصدق والمحبة والرحمة والتواضع، والشهادة للحق والخير، والتزام قضايا المجتمع والإنسان، والحفاظ على القيم الروحية والأخلاقية، واعتماد الحوار عوض التقوقع ، والإنفتاح عوض الحرب، وابتغاء الخير العام عوض المصلحة الشخصية، عل الرب الذي شفى المرأة المنحنية يشفي بلدنا، ويشرق عليه نوره السماوي، ويمنحه السلام والإستقرار اللذين يصبو إليهما أبناؤه، فيستعيد حريته ودوره وتألقه".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|