من داخل السيارة إلى الشاشات: تفاصيل تسريبات الأسد ــ الشبل
من شأن الوصول إلى ما يدور في «الغرف المغلقة» للساسة أن يرخي بحمولات خطرة على المتحاورين فيها، ولعل ما يفسر ذلك أن الخطاب السياسي، الذي يتبناه الساسة والقادة، غالبا ما يكون موجها إلى مستويات ثلاثة، أولها للعامة، وهو الذي يظهر في الإعلام وغايته الأساس هي التعبئة، والثاني للـ «الخاصة» التي تتمثل بالدائرة الواسعة للـ «المحازبين»، أما الثالث فهو موجه لـ «خاصة الخاصة»، وجله يكون موجها إلى دائرة ضيقة جدا، حيث الكشف عن مضامينه غالبا ما يثير الكثير من التساؤلات، بل وإمكان أن يكون الكلام « مفبركا» انطلاقا من التناقض الرهيب، المكتشف، ما بين «المعلن» عند هؤلاء، و«المسكوت عنه» الذي تكشف عبر آلية ما، ومن نافل القول هنا أن وثائق» ويكليكس»، التي انتشرت بدءا من العام 2010 قبيل أن يلقى القبض على مؤسسها الصحفي جوليان أسانج، كانت قد أثارت ضجيجا عالميا لم يهدأ صخبه حتى الآن، والفعل ناجم بالدرجة الأولى عن الوصول إلى «المسكوت عنه» الذي يفترض له ألا يصل إلى «العامة»، التي يصوغ مزاجها ما يطلق عليه عادة في الادببات السياسية بـ«الرأي العام» .
عرضت قناة «الحدث» الإخبارية، مساء يوم السبت الفائت، سلسلة من المقاطع المصورة لرئيس النظام السابق بشار الأسد، وهو يقود سيارته برفقة مستشارته لشؤون الإعلام لونا الشبل، التي قضت في حادث سير غامض شهر تموز الذي سبق سقوط نظام هذا الأخير، وقد جرى تصوير تلك المقاطع يوم 18 آذار 2018 في سياق جولة أجراها الأسد في الغوطة بعد إعلان الفصائل المعارضة عن انسحابها منها قبيل أيام من هذا اليوم الأخير، وفي أحد المقاطع ظهر الأسد وهو يوجه شتائم للغوطة قائلا «يلعن أبو الغوطة... دبحتنا دبح»، قبيل أن ينتقل مقطع آخر ليظهر سخرية الشبل من « تباهي حزب الله «بقدراته العسكرية، حيث قالت» الآن لم نسمع له صوتا»، وفي مقطع آخر كان قد جاء في سياق حديث الأسد عن وضع سوريا قال «لا أشعر بالخجل فقط، بل بالقرف»، ثم تتالت المقاطع ليرصد واحدا منها سخرية الشبل من عناصر الشرطة ووزير داخلية النظام، الفعل الذي لقي استحسان الأسد، والفعل نفسه عاد وتكرر، في مقطع آخر، عند الحديث عن سهيل الحسن، قائد «الفرقة 25» في جيش النظام السابق، وفيه ستقول الشبل «مو فاضي، حاطط رجله على جبل قاسيون مع مرافقين له روس»، ليرد الأسد «صاحب النظريات الغربية»، والغريب في الأمر أن الحسن كان مقربا جدا من القيادة الروسية، التي كرمته مرارا في «قاعدة حميميم»، ولم يعرف عنه أي ميل للنظريات الغربية وفق ما جاء على لسان الأسد.
تقول القناة، التي وصفت تلك التسريبات بالحصرية، أن أمجد عيسى، مدير عام «مؤسسة الوحدة للصحافة والنشر» ومعاون لونا الشبل، هو الذي قام بالتواصل مع أحد مراسليها عارضا عليه نشر تلك الفيديوهات، والراجح هنا أن المذكور كان هو الشخص الثالث في السيارة الذي قام بتصوير الأسد، حيث أظهر أحد المقاطع صورته في المرآة العاكسة على الجانب الأيسر لهذا الأخير، لكن العديد من الوقائع تشير إلى أن العملية لم تكن بهذه البساطة، فقد أشارت بعض التقارير إلى أن الشبل كانت قد احتفظت بشريط الـDVD المسجل، وبدأت علنا بالتهديد به في أعقاب توقيف زوجها عمار ساعاتي، عضو القيادة المركزية في «حزب البعث» الحاكم، والفعل تعالى بعد توقيف شقيقها العميد ملهم الشبل، يوم 26 نيسان 2024، في إدارة «أمن الدولة»، بتهمة «التخابر مع جهات معادية»، وقد أفادت مصادر مطلعة محسوبة على النظام السابق للـ «الديار» أن «كامل صقر (مدير المكتب الإعلامي بالقصر الجمهوري حتى سقوط نظام الأسد) هو الذي كان يحتفظ بتلك التسجيلات»، وأضافت أن الأخير كان قد «أجرى صفقة مرتبة مع «العربية» وسلمها كامل أرشيف الفيديوهات التي بحوزته بعيد سقوط النظام في مقابل حصوله، وأمواله، على خروج آمن»، وكانت تقارير عديدة قد أشارت إلى وجود شبهة حول الشبل وطريقة وصولها إلى منصبها الذي استمرت فيه حتى وفاتها الغامضة شهر تموز من العام الماضي، وقد ذكر تقرير لمجلة «المجلة»، القريبة من السلطات في دمشق، جرى نشره بعد خروج تلك التسريبات للعلن، أن قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» الذي اغتيل في بغداد 2020، كان قد قال لعلي مملوك، مدير «مكتب الأمن الوطني» حتى العام 2019، في لقاء لهما جرى بعد تعيين الشبل بمنصب «المستشار الإعلامي» في الرئاسة السورية، إنها «جاسوسة»، ولربما يشير ذلك، جنبا إلى جنب الطريقة التي كانت الشبل تتحدث بها للأسد في التسريبات، إلى أن الأسد كان مخترقا، بل وفي الدائرة الضيقة القريبة منه، وأنه لم يكن منتبها إلى ذلك، وفي مثل هذه الحالات التي يصل الاختراق فيها إلى «نقي العظم»، يصبح ذلك نذيرا بقرب تفكك النظام، ولعل الأمر الغريب هو استمرار ذلك النظام لست سنوات لاحقة لاعتبارات من الصعب تحديدها وفقا للمعطيات المتوافرة .
لا يشير التوقيت الذي قررت فيه القناة نشر ما بحوزتها، ولربما هذا هو بعضه فقط، على إنه كان عبثيا، فهو جاء قبل يومين فقط من الذكرى السنوية لسقوط نظام الأسد، والرسالة الأولى التي أريد توجيهها، في هذه الحالة، هي لمؤيديه، في الداخل والخارج على حد سواء، فالتسريبات أظهرت صورة متناقضة تماما عن الصورة التي لا يزال يحتفظ بها هؤلاء في ذاكرتهم عنه، أما الرسالة الثانية، فهي موجهة لكل من كان يراه «قائدا» استطاع «الصمود» وسط بحر متلاطم الأمواج، فالتسريبات تؤكد أن الأسد كان لا يزال يراهن على الحل العسكري، وعلى قدرة الجيش على استعادة المناطق التي خرجت عن سيطرته، من دون إدراكه، وهذا هو مضمون الرسالة، بأن دخول، أو خروج، العديد من تلك المناطق كان، بالدرجة الأولى، نتاجا لتوازنات اقليمية - دولية، مما أثبتته عملية «ردع العدوان»، التي انطلقت 27 تشرين ثاني 2024، واستطاعت في غضون 11 يوم تمزيق أشرعة حكمه الذي لم يلق من يذرف دمعة واحدة على رحيله.
عبد المنعم علي عيسى- الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|