السوريون يحتفلون بذكرى سقوط نظام الأسد في دمشق بينما لا يزال حاكماً في بيروت!
السلمية في مواجهة إرث العسكرة: تعقيدات الخيار في الساحل السوري
لم تعد الأسابيع الأخيرة في الساحل السوري مجرد حركة احتجاجية عابرة، بل أصبحت لحظة يتشكّل فيها مشهد جديد تتجاور داخله صورتان متعارضتان: نهجٌ سلمي خرج إلى العلن بثقلٍ لم يكن متوقّعاً، ونهجٌ عسكري لا يزال محجوباً خلف التسريبات والتحليلات الإعلامية. ومع أن الصورة الأولى هي الأكثر تماسكاً وظهوراً، لأنها تجسّدت في اعتصام واسع ثم في إضراب بدأ اليوم الاثنين وسط مؤشرات على استجابة واسعة في أكثر من مدينة، إلا أن حضورها لا يلغي الأسئلة الثقيلة حيال ما يجري في الظل، ولا المخاوف من أن تنتج تقاطعات الأجندات الإقليمية والدولية مساراً تصعيدياً جديداً.
فالنهج السلمي الذي يقوده الشيخ غزال غزال لا يقوم على التهدئة أو الاكتفاء بالموجود، بل على طرح سياسي واضح يدفع نحو فدرالية أو لامركزية واسعة، أي نحو إعادة صياغة موقع الساحل داخل الدولة. وبذلك لم يكن الاعتصام ثم الإضراب مجرد اعتراض، بل فتحاً لمساحة سياسية جديدة، وكسراً لاحتكار السلطة للفضاء العام، وإشعاراً بأن المنطقة قادرة على إنتاج حضور سياسي مستقل.
وتلتقط هذا المعنى منى غانم، رئيسة مكتب التنسيق والعلاقات العامة في المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر، التي ترى، في حديث لـ"النهار"، أن الخطوات السلمية الأخيرة أعطت الناس ثقة بأنهم قادرون على التغيير بوسائل غير عنيفة، في وقت "تعبت فيه معظم العائلات من الحرب ولم يعد يوجد الكثير من الشبان للقتال". وتشير إلى أن الضغط الشعبي والعمل المشترك بين العلويين والدروز في الشهر الماضي ترك أثره في تصريحات الرئيس أحمد الشرع وحديثه الأخير عن ظلم نظام بشار الأسد للعلويين، كما ساهم في خلق مناخ دولي أكثر التفاتاً إلى موضوع حماية الأقليات، وهو ما يمكن تلمّسه في مواقف بعض الدول الداعمة للسلطة الحالية.
وبالنسبة إليها، فإن هذا المسار يمثّل تأكيداً على الانفصال السياسي للعلويين عن نظام الأسد العنفي، وعلى رغبتهم في تأسيس دولة مواطنة وعدالة لجميع السوريين، على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب".
ولعلّ ما منح هذا الخط بعداً إضافياً هو أن التحرك السلمي لم يمرّ بلا صدى. فقبل يوم واحد من بدء الإضراب، خرج الشرع من الدوحة بتصريحات إيجابية تجاه أبناء الساحل، متحدّثاً عن أنهم "الأكثر تضرراً من النظام السابق"، في انعطافة لافتة عن خطاب الأشهر الماضية الذي ركّز على "إنهاء حكم الأقلية". وفي الوقت نفسه تقريباً، أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن بلاده "لن تمنح شيكاً على بياض لقمع الأقليات".
يصعب الجزم بأن هذه المواقف جاءت استجابة مباشرة للحراك، لكن تزامنها معه يوحي بأن المشهد في الساحل أصبح عنصراً مؤثراً في صياغة الخطاب السياسي المعلن من أطراف عدة.
ورغم ذلك، تبقى الصورة الأخرى حاضرة: الحديث عن استعدادات عسكرية يقودها رجال من العهد السابق، في مشهد يبدو متناقضاً مع إجماع القوى الإقليمية والدولية على دعم السلطة الجديدة واستقرار سوريا. فمن الذي يمكن أن يدعم خياراً مسلحاً؟ وهل ما يجري مجرد مبادرات متناثرة من ضباط سابقين؟ وكيف يمكن لمثل هذه المبادرات أن تتقدم بينما أغلب الأسماء المتداولة تقيم في روسيا، الدولة التي تشرف على قاعدة حميميم وتملك معرفة دقيقة بالساحل ولا تسمح بقيام مسارات أمنية موازية، خصوصاً في منطقة تمثل عمق انتشارها العسكري؟ هذه الأسئلة لا تدين أحداً ولا تبرّئ أحداً، لكنها تُظهر أن "النهج العسكري" لا يزال خياراً لم تتأكد ملامحه بعد.
هذا التوازي بين مسارٍ سلمي ملموس وآخر عسكري لم تتضح معالمه يعقّد خيارات الجميع. فالسكان المشاركون في الإضراب يدركون أن الخطوة قد تُساء قراءتها أو قد تحمل مخاطرة، لكنهم يرون أنها أقل تكلفة من الانجرار إلى مسارات عسكرية لا يريدونها. وفي المقابل، فإن أي تعامل قاسٍ مع الحراك السلمي من جانب السلطة قد يدفع شرائح مترددة إلى الاعتقاد بأن القوة وحدها قادرة على حماية الساحل، وهو خطر تدركه السلطة كما تدركه الجهات الإقليمية المعنية.
بهذا المعنى، تجد السلطة نفسها أمام معادلة شديدة الحساسية: التضييق على السلمية قد يُنعش الخطاب المسلح، بينما التساهل معها يرسّخ مطالب سياسية تمسّ بنية الدولة. وهذا ما يجعل كل خطوة — من جانب الساحل أو من جانب السلطة — محكومة بحسابات دقيقة تتجاوز حدود الجغرافيا وتدخل في حسابات الإقليم. ومع دخول الإضراب يومه الأول، تبدو كل قراءة معلّقة على ما ستكشفه الأيام المقبلة من حجم استمراره وقدرته على إنتاج أثر سياسي إضافي.
وسط هذا المشهد، يبدو الساحل أمام منعطف حقيقي. بعد عام ثقيل بالمجازر والهتافات الإقصائية وعودة التوترات المجتمعية، لم يعد الصمت خياراً ممكناً. فالسكان هنا يعيدون التفكير في موقعهم وفي شكل حضورهم السياسي، وفي نوع الاحتجاج القادر على نقل مطالبهم دون أن يجرّهم إلى مسارات خطرة. الخيارات المتاحة ضيقة ومحمّلة بحسابات معقّدة، لكن المؤكد أن المنطقة لم تعد ذلك الفراغ الصامت الذي يمكن تجاهله.
وفي النهاية، لا يبدو المشهد مجرد صراع بين خيارين ميدانيين — سلمي أو عسكري — بل بين مسارين في بناء هوية سياسية جديدة: مسار يحاول تحويل الوجدان المتراكم إلى لغة سياسية مختلفة، ومسار آخر يتمسك بمنطق الحماية القديم الذي حكم علاقة الساحل بالدولة لعقود. بين هذين المسارين يتشكّل المستقبل القريب، في منطقة لا تزال ملامحها النهائية قيد التشكّل.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|