الصحافة

"قانون الانتظام المالي" يستردّ الزمن... لا الودائع

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لا تشبه مسوّدة "الانتظام المالي واسترداد الودائع" أيّ قانون ماليّ خرج من "مطبخ" الدولة اللبنانية منذ عقود. فالنصّ ليس مجرّد محاولة تقنية لإدارة أزمة، بل هو "إعلان سياسي" مكتوب بلغة مالية، ينقل اللبنانيين من مرحلة "ضياع الودائع" إلى مرحلة "إعادة تعريف الوديعة" نفسها. إنه قانون يقدّم نفسه كخارطة طريق نحو الاستقرار، لكنه في العمق: يشرّع الخسارة، ويحوّل المودعين إلى "شركاء قسريين" في لعبة زمن طويلة، تقمّصت فيها الدولة دور "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم".

تبدأ المسوّدة من نقطة تبدو بديهيّة: وضع إطار للاستقرار المالي. لكن أيّ مراقب يدرك أن الاستقرار لا يُبنى بالوعود بل بالأفعال. ولا يتحقق بنصوص مؤجّلة إلى سنوات طويلة. فالسلطة تحاول من خلال هذا المشروع، أن تُظهر قدرتها على استعادة "النظام المالي" عبر تقسيم الودائع، وتنظيم السداد، وتنظيف العمليات غير النظامية، ثمّ إتمام هندسة قانونية تمتدّ على عقدين من الزمن... تنتهي باستعادة المودع جزءًا من ماله، أو ما تبقى من قيمته حين يصل موعد الاستحقاق الطويل.

جوهر المسوّدة يتمثل في الفصل السابع حول "استرداد الودائع". في هذا الفصل، تتكشف "الفلسفة" الفعلية: كلّ مودع سيحصل على 100 ألف دولار نقدًا، مقسّطة على 4 سنوات متتالية. هذه الجملة وحدها تكشف الفجوة بين الطموح والحقيقة. فالدولة لا تقول: "سنعيد الودائع"، بل تقول: "سنبدأ بـ 100 ألف، والباقي سنتركه للزمن".

الودائع المتوسّطة والكبيرة، وما فوق ذلك، تتحوّل إلى شهادات مالية معززة بأصول، تصدر على فئات A وB وC، بفوائد سنوية لا تتجاوز 2 %، وتستحق بين 10 و20 عامًا. أي أن المودع الذي جُمِّدت أمواله منذ 2019، سيُطلب منه الانتظار عقدًا أو عقدين إضافيين ليستعيد ما فقده. ليست الوديعة هنا حقًا ثابتًا، بل ورقة دين على مستقبل غير مضمون.

ما تفعله السلطة فعليًا هو تجميد رأس المال الاجتماعي للبلد داخل زجاجة كبيرة، ورميها في بحر الزمن. بعبارات أخرى، فإن السنوات تُستخدم كحاجز عازل بين المودع وماله، بينما تتولّى الدولة ومصرف لبنان إدارة الأصول التي يفترض أن تغطي قيمة الشهادات. أصول تشمل الذهب، العقارات، الحصص في الشركات، الديون المستحقة، وإيرادات متعدّدة. لكن هذه الأصول نفسها تحتاج إلى إدارة دقيقة، قدرة على التسييل، وإلى استقرار سياسي... وكلها شروط غير متوفرة في بلد يعيد تشكيل أزماته كلّ عام وعند كل استحقاق.

الأخطر أن الدولة تقدّم هذه الآلية كأنها "حلّ سحريّ". لكن الحلّ يفترض الاعتراف بالخسارة، وكذلك تحديد المسؤوليات، وإعادة بناء النظام المالي من أساسه. ويبدو أن المشروع يفعل العكس: يقونن الخسارة، ويعمّمها على الجميع، ويترك جذور الأزمة بلا مساءلة. لا إشارة واضحة إلى تصحيح السياسات المالية، ولا إلى إصلاح العلاقة بين الدولة ومصرف لبنان، ولا إلى ضبط الإنفاق، ولا إلى إعادة النظر في آليات الدين العام. المشروع يتعامل مع الانهيار وكأنه "عطل موقت"، وليس انهيارًا نظاميًا مكتمل الأوصاف...

أما مقاربة توزيع الخسائر، فلا تعتمد معيار العدالة، بل "معيار" القدرة على المماطلة. فالدولة تعترف بدينها لمصرف لبنان وتحوّله إلى "سند دائم" بفائدة تُحدَّد لاحقًا، بينما يُعاد تنظيم العلاقة بين الطرفين بطريقة تجعل الدين "قابلًا للاستمرار"، وليس "قابلاً للحلّ". أمّا المودع، فليس أمامه إلّا الصبر وهو الحلقة الأضعف. ولذلك يُطلب منه تحمّل الجزء الأكبر من الخسارة تحت شعار "حماية الاستقرار المالي".

هذا النوع من القوانين لا يُقرأ ماليًا فقط، بل سياسيًا أيضًا. فهو يعكس إرادة واضحة لدى السلطة لإدارة الأزمة بدلًا من حلّها. وكذلك تصرّ السلطة على وضع اللبنانيين أمام أمر واقع بدلًا من الاعتراف بأن النموذج الاقتصادي الذي حَكَم البلد لعقود انتهى. القانون يُعيد تدوير الأدوات نفسها، ويستخدم الأصول المتبقية كضمانات مستقبلية، بدل أن يطرح تسوية حقيقية للخسائر تُحمِّل المسؤولين عنها كلفتها الفعلية.

في الأسباب الموجبة، تتحدّث الحكومة عن "حماية حقوق المودعين". لكن الحقوق تُحمى بالفعل لا بالنوايا. حماية المودعين كانت تبدأ من تحديد الفجوة بشكل شفاف، ومن وضع خطة عادلة لتحميل المسؤولية: الدولة ومصرف لبنان أولًا، ثم المصارف، وأخيرًا المودع بما يتناسب مع وضعه. لكن المسوّدة تعكس منطقًا معاكسًا: الدولة تُحافظ على قدرتها، مصرف لبنان يُحافظ على توازنه، والمودع يُطلب منه الانتظار...

هذا الانتظار هو الثمن السياسي الأكبر. فكل سنة تمرّ بلا حلّ، تترسخ القناعة بأن الودائع لن تُعاد بقيمتها الفعلية، وأن الدولة نجحت في تحويل ما كان حقًا مكتسبًا إلى وعد مالي مؤجّل. هذا التحوّل في مبدأ الملكية الفردية لا يقلّ خطورة عن الأزمة نفسها. إنها سابقة تتمّ فيها إعادة تعريف الملكية باسم "المصلحة العامة"، بينما تُستخدم المصلحة العامة غطاءً لإعادة توزيع الخسائر على من لا يملك قدرة على الاعتراض.

المسوّدة تُكتب وكأنها حلّ، لكنها في الحقيقة اتفاق سياسي على تأجيل الانفجار. اتفاق يشتري الوقت، لكنه لا يشتري الثقة. بل لعلّه يعمّق انعدام الثقة، لأن الودائع التي كانت رمزًا للأمان الفردي، أمست اليوم رمزًا للانهيار... والمفارقة أن مشروع القانون يريد استعادة الاستقرار من خلال رهن الاستقرار نفسه للمجهول.

عماد الشدياق - نداء الوطن 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا