ميلاد 1975
في نهاية العام 1975، حلّ الميلاد بينما كان لبنان غارقاً في حربه الأهلية التي اندلعت في 15 نيسان في منطقة الشياح-عين الرمانة، وانتشرت سريعاً كالنار في الهشيم إلى أنحاء واسعة من البلاد. بلغت هذه الفتنة المتنقلة ذروتها في كانون الأول، حيث غرق لبنان في أجواء متأزمة، قاتمة وكئيبة، فدعت البطريركية المارونية إلى عدم الاحتفال في ذلك العام بعيدَي الميلاد ورأس السنة، وضمّت كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك صوتها إلى هذا النداء، إضافة إلى عدد من مطارنة الروم الأرثوذكس.
مع حلول الميلاد في ذلك العام الملعون، احتلّت غلاف مجلة "الحوادث" صورة تمثّل طفلاً نائماً على ضوء الشمعة، ورافق هذه الصورة عنوان عريض: "أجراس الميلاد لن تُقرع". جمع هذا العنوان تحقيقَين، استعرض فيهما كابي طبراني وأنطوان فرنسيس، أحوال الناس في هذه المناسبة التي غلب عليها الحزن والوجوم. في التحقيق الأول، انتقل كابي طبراني إلى كسروان، واجتمع بعائلة من آل زغيب، ونقل عن طفلة في الثانية عشرة اسمها ليلى قولها لأبيها: "لن نحتفل بالميلاد هذا العام. لقد قال كاهن الرعية اليوم في عظته بأن الميلاد جاء حزيناً هذا العام، لأن لبنان يجتاز ظروفاً صعبة، لذا لن يجيء بابا نويل عند منتصف الليل محملاً بالهدايا، كعادته، كما أن بطاقات المعايدة ستكون محدودة، وأجراس الميلاد لن تقرع عند منتصف الليل داعية الناس لحضور القداس الإلهي. العيد هذه السنة يا أبي سيكون عادياً، فلن تُنصب شجرة الميلاد، ولن تُضيء المغارة، ولن نشتري الملابس الجديدة ككل عام، الأفضل أن تتبرّع بتكاليف كل هذه الأشياء إلى الناس الذين تضرّروا بالأحداث، كما قال كاهن الرعية".
استجاب هذا الكاهن لنداء رؤساء الطوائف المسيحية الذين دعوا يومها إلى الامتناع عن الاحتفال ذاك العام بعيدي الميلاد ورأس السنة كالعادة، لأن الظروف لن تسمح بذلك، ومنعوا جميع مظاهر العيد، ودعوا إلى الصلاة من أجل إعادة السلام إلى لبنان. حدث ذلك في زمن تأسّست فيه جمعية رسمية أطلقت على نفسها اسم "حكومة كسروان"، وشدّدت على الالتزام بهذا القرار، كما أنها منعت إقامة الاحتفالات تحت طائلة العقوبة. تألّفت هذه الجمعيّة من أعضاء يمثلون كل الأحزاب والمنظمات والهيئات في كسروان، وكان رئيسها قائمقام كسروان خليل الأسطة، ونائب رئيسها رئيس بلدية جونية جان بستاني. تولّت هذه الجمعيّة مهمّة حفظ الأمن وتنظيم الدوريات في القضاء كله أبان العيد، وأصدرت بياناً طويلاً يقضي بمنع التجمعات والاحتفالات خلال هذه الفترة لأن البلاد تعيش حالة حزن وألم. كذلك، أشار هذا البيان إلى منع السهرات الليلية والحفلات الصاخبة، وأكّد في الختام "ان كل من يتجرّأ على عدم التقيّد بهذه التعليمات سيكون جزاؤه عسيراً".
انتقل صاحب التحقيق إلى الدكتور جدعون محاسب، فتحدّث بحسرة عن بهجة العيد في الماضي القريب، وأضاف بحسرة: "أمّا اليوم، فالعيد عيد صلاة فقط، فلا مجال لكل الزخرفات والبهرجات. الصلاة من أجل لبنان هي الأفضل. أما التكاليف التي كنّا نضعها في حفلات العيد، فلنعطها للمساكين والمحتاجين، لقد أصبح أكثر ناس هذا البلد محتاجين ومحزونين". وأضافت زوجته ليلى معلّقة: "نحن لاجئون، هربنا من منزلنا في شارع مي زيادة في القنطاري (غربي بيروت) لنسكن هنا في الصقيع، في غوسطا، والعيد لن يكون له مرقد عندنا في هذا العام، رغم أن الأولاد، وكلهم ما زالوا صغارًا، يحبون الاحتفال بالميلاد". بدورها، قالت سابين، الابنة الكبرى: "والدي شرح لنا الأمر وقال حرام أن نحتفل بالعيد، وفي مكان آخر أناس يُقتلون ويُذبحون، لذا كتبت إلى بابا نويل هذا العام بما معناه أنني لا أريد هذا العام هدايا وألعاباً، انما أريد سلاماً للبنان".
من غوسطا، انتقل كابي طبراني إلى القليعات، واجتمع بشاب يُدعى سمير صفير، ونقل عنه حديثاً آخر عن هذه الأحوال الحزينة، كما نقل عن شقيقته سميرة قولها: "كل شيء اضمحل، حتى أجراس العيد لن تقرع لتدعونا إلى الصلاة عند منتصف الليل، ان لبنان يعيش حكاية حزينة يجب أن تنتهي. ويل لأمة إذا كان الحزن أبداً رائدها، فعيدها حزن، وأيامها كلها مآس. اللهم، عينك على لبنان". بعد هذه الأحاديث المريرة، قدّم الصحافي تعريفاً بعيد الميلاد وما يحمله من تقاليد، وختم تحقيقه بالقول: "أمّا اليوم، وفي هذه المحنة التي يعيشها لبنان، فقد بحّت الأجراس في المدينة والجبل معاً، والشمس الباردة قد جففت أغصان الزيتون، فيبست. والفرح؟ انتحر، على أعتاب البيوت المهدمة. وفي القلوب الحزينة، قشعريرة تصرخ: اجعل من رمز ميلادك اليوم أيها الطفل الصغير حقيقة تدخل القلوب المتحجّرة والحاقدة، فتغمرها بالإيمان والحب، وأرسل الينا بابا نويل حاملاً المحبة والسلام إلى لبنان بدل الصواريخ والقنابل والهواوين".
ميلاد الشمال الحزين
في التحقيق الثاني، استعرض أنطوان فرنسيس أحوال "ميلاد الشمال الحزين"، واستهلّ كلامه بالقول: "صار الفرح لونه أسود. لا أجراس، لا زينة، لا أشجار صنوبر ملوّنة بهدايا الصغار. لا عشّاق يخرجون في الليل، ولا مغارة تُفرح الأطفال. جميع الشموع مطفأة، ولم يبق سوى طعم الدمار في مدينة حاصرها الموت من كل الجّهات. كلّهم رحلوا. كلهم غابوا في الوحل، ذوّبتهم الحسرة وأكلهم الألم والخوف، وضاعوا في ضباب الميلاد الحزين. لم يخرج أحد إلى قدّاس نصف الليل. منعوا حتى القدّاس. فكل شيء تبدّل رغم أنها عادة قديمة، عادة أجيال. هذه المرة كل شيء له شكل آخر جديد، كل شيء يخيف الأطفال، ويجرح الميلاد الحزين".
وأضاف الكاتب: "كانت زغرتا في زمن الميلاد بلدة تسكر بالناس، وترقص بالزينة والمغاور والشموع، وتتزيّن بأشجار الميلاد. كلها تتزيّن، ومثل زغرتا جميع مناطق الشمال، جميع أهل الشمال. اليوم طرابلس مدينة محاربة. وأهل زغرتا كلهم يقاتلون. والمعركة حاجز فاصل بينهم وبين العيد والسهر والحفلات. تبدّلت الحكايات والمواعيد. وبدل موعد الرقص والحفلات، تتعلّم الصبايا الدفاع المدني، أو يجلسن في البيت حول النار يتعلمن شغل الصوف، ويحدقن بالوقت، وبعضهم يتسلّى بالورق أو لعب طاولة الزهر".
في هذا التحقيق، تحدّثت نايلة معوض، زوجة رينه معوض، وقالت: "لأوّل مرة أعيّد بلا عيد. كان الميلاد عيد الجميع، جميع الفئات اللبنانية، صحيح أنه عيد مسيحي، لكنه بسمة وفرح لجميع الأطفال، وكان فرح الجميع مشتركاً، وأكثر المسلمين كانوا يزيّنون أشجار الميلاد قبل المسيحيين. اليوم ضاع كل شيء. لعبوا بالبلد كأنّها كرة فمزّقوها ولم يدروا، وبدل الفرح المشترك في الميلاد، صرنا نعيش الحزن الانفرادي والألم". كذلك، تحدّث، رئيس بلدية اهدن الشيخ ألفريد بولس المكاري، وقال: "العيد شعور وجداني، والزغرتاوي كإنسان لا يسعه أن يعيّد وسط الخراب الذي يعمّ لبنان المثخن بالجراح، أنما يشعر بالأسى للصغار الذين سيُحرمون من العيد".
في الختام، عاد أنطوان فرنسيس إلى طفل الميلاد، وقال: "هذه المرة لن يأتي، لا تنتظروه لا في الشمال ولا في الجنوب، هذه المرة لن يخرج من ترنيمة الكنيسة، ولن ينام في المذود، ولن يزوره الرعيان ولا المجوس. هذه المرة لن يأتي. لقد أضلّ ملاك الحب طريقه، فجاء جنود بيلاطس مع الفجر، وذبحوا العيد مثلما ذبحوا جميع الأطفال".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|