هل من قطبة مخفيّة وراء نأي "المركزي" عن لجم ارتفاع سعر الصرف؟
في الفترة الاخيرة، عودنا مصرف لبنان على التدخل المفاجئ لردع الدولار من القفز فوق حاجز الـ40 ألف ليرة للدولار الواحد. ولكن في الايام الماضية، ترك الدولار على غاربه من دون أن يجد من يلجمه أو يوقفه عند حد، لتكثر التساؤلات عن سبب ترك مصرف لبنان الدولار يسرح ويمرح في سوق الصرف؟ والسؤال الأهم: هل سيرتفع #سعر صرف الدولار أكثر أم تسهم فترة الاعياد في ضخ عملات أجنبية من السيّاح والمغتربين اللبنانيين؟
بعدما عُزلت الدولة اللبنانية عن الأسواق المالية بسبب التعثر غير المنظم في آذار من سنة 2020 وغياب الإصلاح الجدي من بعد ذلك، وبعد انعدام قدرة الدولة على تأمين الإيرادات اللازمة لتمويل، بالحد الأدنى، المصاريف التشغيلية للدولة (رواتب وأجور)، بات المخرج الوحيد للتمويل هو طباعة العملة والاتكال على مصرف لبنان لإدارة ما قد يترتب عن ذلك من ضغوط تضخمية وارتفاع في الأسعار. وقد أثقل إقرار رفع رواتب وأجور موظفي القطاع العام في قانون موازنة 2022 كاهل مصرف لبنان في مهامّه لتمويل الدولة وأصبح من الضروري اللجوء إلى الهندسات المالية مجدداً، ولكن على ركائز جديدة بعيدة عن الفوائد العالية والحاجة إلى جلب التوظيفات لدى مصرف لبنان. ووفق خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد محمد فحيلي فإن "التمويل بالأوراق النقدية الوطنية متوافر، ولكن إغراق السوق المحلية بالليرة اللبنانية قد يدفع إلى ارتفاع الأسعار، وتالياً تصبح الأمور خارج سيطرة مصرف لبنان. لذا أصبحت الوسيلة الأكثر أماناً لصرف رواتب وأجور القطاع العام هي الدولار الأميركي. فإذا توافرت الكتلة النقدية بالدولار لصرف هذه الرواتب، وبالدولار عوضاً عن دفعها بالعملة الوطنية، وعلى سعر منصة صيرفة، فإن المركزي يؤسس بذلك لإيجابيتين يلخصهما فحيلي بحصول الموظف على راتبة بالنقدي، وبذلك يتحرّر من الضوابط العشوائية التي تضعها المصارف. كذلك فإنه يفيد من فارق سعر الصرف بين صيرفة والسوق الموازية. وكلما ازداد هذا الفارق ارتفع حجم الراتب بالليرة من دون أن تكون له تداعيات على خزينة الدولة، أي إن كان راتب الموظف 4 ملايين و500 ألف ليرة، وسعر منصة صيرفة هو 30.300 ليرة، يصبح راتب الموظف 149 دولاراً. إن كان سعر صرف السوق الموازية 40 ألف ليرة، يصبح الراتب 5.960.000 ليرة؛ وإذا ارتفع سعر الصرف إلى 42 ألف ليرة، يرتفع الراتب ليصبح 6.258.000 ليرة. ولكن عبء الراتب على خزينة الدولة يبقى على ما هو 4 ملايين و500 ألف ليرة".
إحدى الوسائل المتاحة للحصول على الدولار وتأمين الكتلة النقدية الدولارية (صرف الرواتب يكون بالنقد لا بالحسابات المصرفية، ولكن عبر القطاع المصرفي) هي السوق الموازية. وقد أصبح مصرف لبنان لاعباً أساسياً في هذه السوق يشتري ما يشتهيه بالتوقيت والسعر المناسب وأصبحت شركات الصيرفة والمصارف التجارية تعمل لخدمته في إدارة الاقتصاد.
ومع إظهارها قدرة مميزة على الصمود والتأقلم مع المتغيرات الاقتصادية، باتت مكوّنات القطاع الخاص، من عمال ومؤسسات، قادرة على تحمّل قسط من الارتفاع في الأسعار. ويؤكد فحيلي أن هذا الواقع دخل بقوة بالتخطيط التكتيكي لسياسات مصرف لبنان في الإدارة الظرفية للاقتصاد بانتظار الفرج. وبرأيه إن "مصرف لبنان يعلم ويراقب ويتريّث في التدخل، لأن الوقت غير مناسب الآن، لكونه يسعى إلى توفير ما تيسر من إغراءات للدفع باتجاه عرض الكمّ الأكبر من الدولارات في السوق المحلية لوضع يده عليها". مع وصول دولار السوق الموازية إلى عتبة الـ44 ألف ليرة (إلى المزيد من الارتفاع، ولكن ببطء وتأنٍّ في الأسابيع المقبلة) يتوقع فحيلي ارتفاعاً ملحوظاً في السحوبات الاستثنائية تحت أحكام تعميم مصرف لبنان رقم 151 للإفادة من منصّة صيرفة (التعميم الأساسي رقم 161)، مع الأخذ في الاعتبار حصول نوع من الجمود في هذه السحوبات بعد إعلان حاكم مصرف لبنان عن توجه المركزي إلى رفع سعر صرف السحوبات الاستثنائية إلى 15 ألف ليرة للدولار الواحد في أول شباط من عام 2023 بدل 8 آلاف ليرة، وهو السعر المعتمد حالياً. الفارق الكبير بين سعر صيرفة والسوق الموازية جعل الانتظار مكلفاً، والكل بات يعلم أن دولار صيرفة ليس للتخزين بل للعرض في السوق الموازية للمضاربة والربح وتمويل فواتير الاستهلاك. وفي المقلب الآخر، السحوبات تحت أحكام التعميم 151 تخفض من مطلوبات المصارف (liabilities) بكلفة أقل من حملها بالدولار.
توزاياً، يتوقع فحيلي اللجوء إلى عرض الدولارات الفريش المخزنة في المنازل في السوق. ففقدان الثقة يجعل كل واحد منا يتوقع هبوطاً مفاجئاً في سعر صرف الدولار في أي لحظة يقرر فيها مصرف لبنان التدخل. وهنا بيت القصيد. ولكن ماذا ينتظر مصرف لبنان ليتدخل؟!
وفق فحيلي فإن مصرف لبنان مرتاح الآن إلى التطورات على الساحة النقدية المحلية على اعتبار أن السحوبات تحت أحكام تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 151 عادت إلى نشاطها. وهذه هدية مجانية للمصارف التجارية (خفض في مطلوباتها)، وللسلطة السياسية (تقلص في حجم الخسارة التي باتت هي الرقم الأهم والأصعب في أي خطة تعافٍ)، إضافة الى أن لجوء المواطنين إلى عرض دولارات الفريش المحفوظة في الخزنات الحديدية، هو بمثابة ضخ دولارات فريش من خارج لبنان، فيما ارتفاع حجم الكتلة النقدية الدولارية يريح السلطة النقدية، لذا يستبعد فحيلي أن يتدخل مصرف لبنان في هذه الأيام، إلا من خلال إحداث ارتفاع بطيء في سعر صرف منصة صيرفة مع ضرورة إبقاء الإغراءات التي يوفرها ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية.
المراوحة في هذا الوضع قد يستمرّ ليكون في استطاعة مصرف لبنان التأسيس لواقع نقدي جديد يمكّنه من تمويل الزيادات التي أقرّتها الحكومة في موازنة 2022 لرواتب وأجور موظفي القطاع العام، شرط أن لا يحدث هذا التمويل ضغوطاً تضخمية مدمّرة. فمصرف لبنان على يقين بأن الضرائب والرسوم الإضافية التي أُقرت في موازنة 2022 لن تنعكس إيجاباً على إيرادات الخزينة، والسبيل الوحيد لتمويل المصاريف التشغيلية للدولة وأي نفقات إضافية هو طباعة العملة.
سلوى بعلبكي - "النهار"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|