المفاوضات مع صندوق النقد إلى الوراء... والاصلاحات في عهدة الفراغ
كتبت سلوى بعلبكي في النهار:
في الإعتقاد المُسند بالتجربة الملموسة، أنه لم يمر في تاريخ عمل صندوق النقد الدولي دولة عصية على الحلول التي يقترحها لمعالجة مشاكل الدول المتعثرة ووضعها على سكة التعافي كالدولة اللبنانية.
المسؤولون في لبنان نوعان، نوع يعتبر اللجوء الى صندوق النقد ضرورة للحصول على بعض المساعدات النقدية لشراء الوقت السياسي ريثما تنجلي أمور المسارات السياسية الأخرى، لكنه يمتنع عن القبول بأي إصلاحات جدية، أو تنفيذ مطالب الصندوق. والنوع الثاني لا يختلف عن النوع الأول، لكن لديه شروطه الأعلى سقفا، ويضع جميع مطالب الصندوق واقتراحات الحلول المطروحة، ومشاريع القوانين الإصلاحية، في خانة المؤامرة على البلد، فيسعى الى تقويض أي تشريع، ونسف أي قانون يخدم المفاوضات مع المؤسسة الدولية، عبر إدخال عناصر وبنود تعرقل المسار التفاوضي والتشريعي.
في كلا الحالتين، سقط لبنان فريسة تعنّت واستهتار مسؤوليه بالمصلحة العليا للإقتصاد، ويتجه مسرعا نحو قعر ما عاد بعيدا، والدليل تلاشي القدرة على حماية ما تبقّى من الليرة، على رغم "جهود صيرفة"، ذراع مصرف لبنان، لهذه الغاية، وتآكل عمل المؤسسات الرسمية، كما تمدد الشغور في الرئاسة والحكومة، وقريبا في رأس مصرف لبنان والأمن العام وغيرها.
فبعد تخلّف لبنان في آذار 2020 عن تسديد دفعة مستحقة من سندات "اليوروبوندز"، باشرت حكومة الرئيس حسان دياب التفاوض مع صندوق النقد وفق خطة للتعافي الإقتصادي وضعتها شركة "لازار (LAZARD)للاستشارات المالية"، أهم بنودها إصلاح قطاع الكهرباء، والتدقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي. لكن هذه الخطة سقطت في مجلس النواب "سياسيا" بذريعة الاختلاف بين ممثلي الحكومة ومصرف لبنان على تقدير حجم الخسائر.
عادت المفاوضات واستؤنفت رسميا في الشهر الاول من العام الماضي مع صندوق النقد للحصول على برنامج مساعدات تراوح قيمته ما بين 3 و4 مليارات دولار. بعد أشهر من المفاوضات تم التوصل إلى اتفاق مبدئي مع السلطات اللبنانية على قرض بقيمة 3 مليارات دولار لمساعدة البلاد على الخروج من أزمتها الاقتصادية. لكن هذه المساعدة كانت مشروطة بشروع لبنان فوراً في إقرار مجموعة قوانين وتشريعات إصلاحية، تحدّ من التضخم والعجز، وتوقف استشراء الفساد والسرقة والتهرب الضريبي.
ولكن حتى اليوم، لم ينفذ لبنان شروط الاصلاح كاملة، وهي مسألة إزدادت تعقيدا مع الشغور الرئاسي، وعدم قدرة مجلس النواب دستوريا على التشريع، والحدود الضيقة لصلاحيات حكومة تصريف الأعمال، اضافة إلى استفحال الخلافات السياسية، واستراتيجية "عرقلّي تا عرقلّك" المتّبعة بين أضداد السلطة. وعلى هذا النحو يبقى السؤال عن مصير المفاوضات، وهل يمكن أن تصل الى مسار مسدود؟
يؤكد رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية الدكتور منير راشد أن "السلطة السياسية لم تطبق حتى اليوم الإجراءات الاصلاحية المطلوبة من صندوق النقد، اللهم إلا موازنة 2022 وقانون السرية المصرفية على رغم بعض علامات الاستفهام حوله. أما رفع الدعم عن السلع والمحروقات فلم يتم بمحض ارادة السلطة، بل لم يعد هناك أموال كافية مما أجبر الحكومة على التخلي عن الدعم المغدَق"... وبناء على ذلك، يقول راشد: "عمليا لم نجرِ اي إصلاح يُذكر. فالاصلاح الاقتصادي عادة ما يكون متسلسلا، وتاليا يجب أن تتم المباشرة به اليوم قبل الغد، خصوصا حيال ما يتعلق بالقطاع العام والضرائب التي يمكن أن تُقر بقانون في مجلس النواب من دون انتظار اقرار الموازنة".
ويتحدث راشد عن موازنة 2022 التي أقرت في نهاية العام من دون أن يكون هناك امكان للصرف على اساسها، علما أنها "موازنة ضعيفة وفيها عجز كبير، خصوصا أنها لم تلحظ المصاريف كلها. فعجز الموازنة الذي بلغ 17%، قد يصل الى 29% لأنها استثنت سلفة الكهرباء وخطة معالجتها. واذا كان استثناء الكهرباء من الموازنة هو سلوك مستمر منذ 1993 ومخالف للقوانين، إذ يتم الاستغناء عنها بسلفات خزينة، ولكن في الواقع سلف الكهرباء هي إنفاق، فيما لم يحصل أن سددت مؤسسة كهرباء لبنان سلف الخزينة، وتاليا يجب احتسابها مع عجز الموازنة. اضافة الى ذلك، ثمة مشكلة كبيرة في الموازنة تتعلق بزيادة الاجور والرواتب نحو 3 أضعاف من دون ان يكون هناك ايرادات كافية لتغطية هذه الزيادات، عدا أن سعر الصرف المعتمد في الموازنة والمقدر بنحو 15 ألف ليرة لا يزال بعيدا جدا عن سعر صرف السوق، علما أن صندوق النقد طلب توحيد اسعار الصرف على سعر يكون قريبا من سعر السوق". وتطرق الى موازنة 2023 التي لا تزال عالقة "بما يعني أننا سنستمر بالصرف على أساس القاعدة الاثني عشرية على اساس موازنة عام 2022". والى موازنة 2023 ثمة أمور لا تزال عالقة، ومنها إعادة جدولة الديون واعادة هيكلة المصارف واجراء تقييم للمصارف الكبرى (14 مصرفا) والتدقيق في مصرف لبنان، وقانون "الكابيتال كونترول" وتوحيد سعر الصرف.
ولكن ليس كل ما يطلبه صندوق النقد يصب في مصلحة لبنان، وفق ما يقول راشد، "إذ عندما ينادي الصندوق بشطب الودائع يعني اننا بذلك نشطب المصارف"، لذا يرى أن "من الافضل اعادة جدولة الودائع. أما بالنسبة لاعادة هيكلة المصارف، فالأجدى تنفيذ الاصلاحات اولا خصوصا أن أزمة المصارف تتعلق بعدم تسديد الدولة ديونها لمصرف لبنان الذي بدوره لا يدفع للمصارف".
لا شك في أن قانون "الكابيتال كونترول" يتضمن فجوات كبيرة، خصوصا بالنسبة لحجم السحوبات التي يمكن ألّا تكون منصفة لأصحاب الودائع الذين ينوون تعليم أولادهم في الخارج أو لديهم مصاريف كبيرة، من هنا يطالب راشد بقانون جديد من دون ممارسة الاستنسابية في المصارف.
يلحظ قانون "الكابيتال كونترول" ايضا تأليف لجنة خاصة من وزير المال وحاكم مصرف لبنان وخبيرين اقتصاديين وقاض، ومن المهام المنوطة بهذه اللجنة البت بالمعاملات التي لها علاقة بالتعامل مع الخارج، ومنها معاملات ميزان المدفوعات (آلاف المعاملات) وغيرها من المعاملات، لذا يسأل راشد: هل سيكون في مقدورها ملاحقة كل هذه المعاملات؟
ويجدد التأكيد أن "ليس ثمة اصلاح جدي، فيما الخطة التي أقرتها الحكومة فيها الكثير من الفجوات. فهي تركز على ادارة الخسارات بدل أن تركز على ادارة الاقتصاد، كما أنها بشكل مباشر أو غير مباشر تدعو الى شطب نحو 84 مليار دولار من اصل 99 مليارا من الودائع التي ستحوّل الى ودائع بالليرة على اسعار منخفضة جدا مقارنة بسعر السوق الحرة وسعر المنصة مقابل حقوق ورقية من دون اي قيمة". هذا الاقتراح برأيه "لا يؤدي الى حل بل الى تفاقم الازمة، وهي فقط استبدال التزام مؤكد بالتزام غير مضمون".
الى ذلك، فإن "عدم وجود موازنة وعدم السير باجراءات اصلاحية، في مقابل اتخاذ قرارات سلبية مثل تطبيق زيادة الاجور والرواتب، سيؤدي الى زيادة العجز، فيما سيستمر ارتفاع قيمة متأخرات الديون، وسيستمر تراجع القطاع العام الذي ستستمر سياسة تمويله عبر طبع الليرات، وتاليا إذا لم يتراجع الاقتصاد اللبناني أقله سيراوح مكانه في الجمود"، وفق ما يقول.
وفي ظل هذه الدوامة، لا يبدو راشد قلقا على القطاع الخاص "الذي يمكنه تسيير اموره، خصوصا انه أثبت تكيّفه مع الظروف الصعبة، ولعل ما حصل بعد انفجار المرفأ من ترميم لمنطقة مار مخايل لأكبر دليل على ذلك، فيما المرفأ لا يزال على حاله. وهذا يثبت أن الذي يؤخر النمو الاقتصادي هو الدولة، اذ ليس لديها سياسات اقتصادية ومالية صحيحة".
وفيما يطالب صندوق النقد بتوحيد أسعار الصرف، لا يرى راشد جدوى لذلك، مطالبا في المقابل بالتحرير الكامل لسوق العملات الاجنبية ليصبح سعر الدولار مقابل الليرة سعرا موحدا تلقائيا محددا من سوق القطع الشامل لجميع المعاملات المصرفية، للمؤسسات العامة والخاصة، للحكومة، والمواطن، وينهي التعامل باللولار (الدولار المصرفي قبل 17 تشرين 2019) والاسعار المختلفة للدولار، معتبرا أن "تحرير سعر الصرف واطلاق حرية المصارف في التعامل في سوق القطع يعيدان السيولة الى الاقتصاد والمصارف وكذلك ثقة المواطن".
ويخلص راشد الى القول إن "الرؤية لسنة 2023 غير جيدة اجمالا، فمؤسسات القطاع العام غير سليمة وبحاجة الى اصلاح (ماء، كهرباء، نقل، اتصالات، ضمان)، وتاليا فإن الاقتصاد لن يكون في امكانه النمو في ظل شلل مؤسسات الدولة وعدم وجود استثمارات جديدة".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|