تحت أزيز الطائرات الحربية.. مزارعون في الجنوب يحصدون الزيتون
شحادين يا بلدنا..
تكاد الكارثة المالية الاقتصادية التي تتحكم بلبنان منذ ثلاث سنوات إلى الآن، أن تبدل وتطيح بكل ما كنا نعرفه وعايشناه وخبرناه في هذا البلد، العالق بين براثن الفساد والفوضى والعجز. بل إن الكارثة الحالية تقوم عبر أنيابها بتبدلات وتغييرات، إذا ما بقيت واستمرت بعد وقت، ستصبح ثابتة وغير قابلة للتبديل في الكثير من وجوهها.
التغيير الجاري بين نصلي الدولار والليرة، يطال كل أوجه الحياة وأغلب القوى والفئات الاجتماعية والاقتصادية، من دون رحمة أو تمهل أو تردد أو مساومة.. بالترافق مع لعبة "الكشاتبين" والسعدنات الجارية من السلطات المالية والنقدية، عبر التعاميم الغامضة والمتطايرة وغير المفهومة أوالمبررة، والتي تطال بانعكاساتها قطاعات واسعة من الشعب اللبناني بأدواره ووظائفه.
وفيما لبنان يترقب المفاوضات لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لمنحه قرضاً بـ3 مليارات دولار، كفاتحة تعاون وفيزا لمنحه الثقة لدى المؤسسات الدولية، كُشف في وسائل الإعلام أن لبنان كان يملك لحظة انفجار الأزمة المالية 36 مليار دولار، أُنفق منها نحو 20 ملياراً على سياسة دعم مواد غذائية وتموينية، منها محروقات وأدوية، في فترة حكومة حسان دياب والقوى المسيرة له ووزير اقتصاده الألمعي ومن حوله. مما شرع الباب لمضاعفة ثروات تجار وفئات احتكارية بشكل هائل وغير مسبوق.
التحول الأول الجاري الآن، يطال فئات واسعة من أرباب العمل والتجار وأصحاب المؤسسات والناس العاديين، الذين تحول عدد كبير منهم إلى مهنة الصرافة. إذ يمكن للمواطن أن يحول ما معه من عملات أجنبية إلى الليرة عند البقال أو عند اللحام أو بائع الدجاج أو لدى الميني ماركت الصغيرة في الحي السكني. الكل بات يعمل في مهنة الصرافة للاستفادة من السوق المفتوحة لبيع العملات.
إن مشهد وصورة عشرات الشباب المنتشرين على الطرق ومداخل المدن ملوحين بكدسات ورزم العملات، والمنادين على أسعارهم.. صرّاف، صرّاف.. لا يمكن أن تؤشر إلى حالة طبيعية في بلد طبيعي.
وصل الأمر في أوقات عديدة إلى حوادث تصادم واشتباكات بالأيدي والأسلحة النارية، سقط بسببها ضحايا وجرحى، نتيجة للتنافس والتزاحم على مكان الوقوف للصرّافين على الواقف، كما تكرر أكثر من مرة على مداخل صيدا وصور وطرابلس.
إضافة إلى مهنة الصرافة المستجدة والأكثر ازدهاراً وانتشاراً ورواجاً، فإن فئات واسعة من الموظفين المحترمين في مهنهم حتى الأمس، تحولت إلى ما يشبه المتسولين أو "الشحادين" غصباً عنهم ومن دون مشورتهم.
فأرتال وجموع المتهافتين على ماكينات السحب الآلي ومداخل المصارف، لتبديل العملات على ما يسمى لعبة "صيرفة"، تكتسح المشهد. ولمن يرغب، عليه الوقوف ساعات وساعات للظفر بحفنة من الدولارات لبيعها وإبدالها وتحقيق كسب سريع، يسد رمقه من هذه المهزلة المتنامية والمنتشرة.
فعل خيراً وزير التربية القاضي عباس الحلبي الرصين بتراجعه عن ما كان تورط وتسرع في إعلانه عن تخصيص خمسة دولارات لكل أستاذ عن كل يوم حضور إلى العمل، مما تسبب بشبه انتفاضة أو هبة للمعلمين، الذين اعتبروا كلامه إهانة دفعتهم إلى الرفض العميم.
وليس بعيداً عن الأساتذة والمعلمين، فقد وقّع وزير الدفاع الوطني اتفاقية مع السفيرة الأميركية، دوروثي شيا، في 20 أيار الماضي في بيروت، ستسمح بمنح 100 دولار أميركي لكلّ عسكري، يبدأ توزيعها في منتصف الشهر الحالي، حسبما نشر في وسائل الاعلام.
لكن في هذا الوقت وفي المقابل، ستُجمّد المساعدة القطرية للعسكر، ثمّ تُستأنف بعد انتهاء مرحلة توزيع المساعدة المالية الأميركية.
وكان تردد أن الموظفين في وزارة التربية قد تقاضوا مبلغ 90 دولاراً كحوافز للعمل السنة الماضية، وبعد ان سقط وعد آخر بتأمين ودفع 130 دولاراً لكل موظف شهرياً.
ومن يتابع تصريحات ومواقف مسؤولين آخرين عن مؤسسات أمنية رسمية، لا يترددون في القول والإعلان إنهم يسعون بكل الوسائل ولدى مؤسسات مانحة أو واهبة هنا وهناك، لتأمين ما يمكن تأمينه لأفراد وعناصر مؤسستهم، للصمود والاستمرار. وكم من رواية ترددت في المدة الأخيرة وانتشرت عن عجز قوى أمنية رسمية من التحرك في مهمات، نتيجة فقدان الوقود في سياراتهم وآلياتهم. وقد أُلغيت العديد من المهمات نتيجة لذلك.
ولم يغب عن بال اللبنانيين الأدوار التي لعبها العديد من العناصر الأمنية فترة أزمة مادة البنزين، وتولي مؤسسات وعناصر منها السهر على تنظيم وضبط بيع المادة، حيث تحول أفراد منهم وبفعل المونة والرغبة في الكسب السهل، إلى تجار غالونات بنزين وأرباح بفارق السعر. وأصبح من لديه صديق أو قريب من أحد عناصر الأجهزة الأمنية آمناً مؤمّناً في تنقلاته، ومن ليس لديه مونة على أحد، تنكب معاناة الوقوف والانتظار ساعات وساعات.. من دون طائل، لسد رمق سيارته العطشى بقطرة وقود.
إن مؤسسات رسمية عديدة باتت تسير على طريقة ونظام يومَيّ عمل في الأسبوع أو يوم واحد، فيما كانت الشكاوى ترفع أصلاً قبل هذه الكارثة من انعدام القدرة على الإنتاج والعمل، حتى قبل الانهيار المالي والنقدي، وحتى في دوام عمل كامل. وما ظهر مؤخراً دل أن مؤسسات وجهات رسمية تقوم بالسطو على أموال مؤسسات رسمية أخرى مستضعفة، تماماً كما حصل مع الجامعة اللبنانية، التي تحتاج للقليل لكي تعمل وتقلع وتنطلق، بعد أن صادرت مؤسسات وجهات رسمية مبلغ 50 مليون دولار من عائدات تعود للجامعة، نتيجة قرصنة بدلات فحوص الـ(PCR) التي أجريت في المطار، والتي اجريت في مختبرات الجامعة الوطنية.
الظاهرة الثانية القاتلة تتمثل بتحول متاجر المواد الغذائية وغيرها من السلع وأصحابها إلى تكريس منهبة مفتوحة ومشرعة بحرية كاملة بحق المواطنين، بحجة حماية رأس المال وضمان الربح، حيث تضاعفت الأسعار لأكثر من ضعف، وتكدست الأرباح من دون وازع أو ضابط، يومياً، بل وأكثر من مرة في اليوم الواحد.
باختصار، نحن الآن وسط سيطرة " الثقافة السمكية" السائدة في البحار والمحيطات، حيث يأكل السمك الكبير السمك الصغير، ويتحكم القوي بالضعيف.
عملياً، وحسب إحصاءات جدية متداولة، بات الحد الأدنى للأجور يساوي 70 دولاراً بدخل أقل من الحد الأدنى في إيران المحدد عند 360 دولاراً، وموريتانيا حيث الحد الأدنى 111 دولاراً، وأقل من بنغلادش المحدد عند 95 دولاراً.
وسط تغير في الوظائف الاجتماعية والمهنية لفئات واسعة من الشعب، وظهور مهن جديدة ليس آخرها وأقواها وأفعلها مهنة صاحب المولد الكهربائي، أو صاحب محطة الوقود أو الضامن لها، والأخرى الموزعة بين أعمال الصرافة أو التسول والشحادة غير المعلنة. وكل ذلك بانتظار إمكانية العودة إلى الحياة الطبيعية المتعذرة لحل الأزمة السياسية الأساسية، لإعادة انتظام مؤسسات هيكل متصدع، دمرته الخلافات السياسية والنكايات المتبادلة.
النكايات والخلافات السياسية يبدو أنها لن تتراجع، حتى لو تحول بلدنا -وهو في طريق التحول- إلى تحقيق كلمات أغنية المسرحي الكوميدي الوطني الكبير شوشو، حين انشد عام 1973 أغنيته الشهيرة في مسرحية "آخ يا بلدنا"، التي ضربت ويبدو أنها أصابت حين قالت "شحادين يا بلدنا".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|