الصحافة

البحث عن رئيس "أميركيّ" لا يطعن المقاومة

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

بأيّ كلمات يمكن وصف المشهد اللبناني الحالي؟ بلد بأكمله، بشعبه ومسؤوليه وسياسيّيه وقضائه وأمنه، يتخبّط ويسير في طرق العبثيّة والمجهول. بلد انهارت كلّ شبكات أمانه وبات توقُّع الأسوأ فيه هو عين العقل والصواب. والخطر الأكبر أن لا أحد يسعى إلى تجنّب هذا الأسوأ، بل على العكس تماماً يشي مسار التطوّرات بأنّ هناك استدعاءً له واستعداداً لوقوعه. وفيما يدخل الجميع في سباق مع الانفجار فإنّ الطرف الأقوى على الساحة الداخلية يريد الانفجار لمصلحته ووفق توقيته، فإذا شعر أنّ ثمّة من يستعجل الوصول إليه سبق الجميع إلى إشعال فتيله.

إزاء واقع كهذا يصبح البحث عن حلول داخلية وخارجية للأزمة عبثيّاً. فأيّ حلّ إذا كان الجميع ينتظر لحظة الانتقال من الانهيار إلى الانفجار، أي إذا أصبح الجميع مسلِّماً بأنّ الحلّ والتسوية لن يكونا لاستباق الانفجار بل إنّ الانفجار سيكون مقدّمة لهما. وهذا حكمٌ نهائيّ بانهيار السياسة في لبنان التي لم تعد تنتج الحلول بل تخلق الأزمات وتفاقمها.

جدار عازل

إنّها خلاصة ثلاث سنوات من الأزمة الجهنّمية، إذ استطاعت السلطة والطبقة السياسية خلق جدار عازل بينها وبين الأزمة، بحيث لم تجد نفسها مضطرّة بحكم مسؤوليّتها أمام الشعب إلى وقف الانهيار. وهذا سببٌ رئيسي في تفاقم الأزمة إلى درجة أنّه ما عاد يُرتجى حلٌّ لها مع انتخاب رئيس للجمهورية، إلّا إذا كان انتخابه نتيجة تسوية إقليمية ودولية كبرى تتيح تحييد لبنان عن صراع المحاور وتضمن ضخّاً للأموال في اقتصاده. وهذه تسوية لا تتوفّر شروطها السياسية والمالية الآن في ظلّ تفاقم الصراع الدولي على أوكرانيا وامتداداته الإقليمية، ولا سيّما لجهة الضغط الدولي على إيران، والإجراءات الاقتصادية الحمائية التي تتّبعها الدول الكبرى والدول الخليجية أيضاً.

وإذا اعتبرنا أنّ انتخاب الرئيس سيمثّل في لحظة معيّنة ضرورة داخلية وخارجية لا غنى عنها فلن يكون انتخابه سوى محاولة لدرء مخاطر الانهيار عن الداخل والخارج لا لإيجاد حلول جذرية للأزمة من خلال إطلاق مسار معاكس للسياسة والاقتصاد في لبنان، أي لن يكون انتخاب رئيس جديد في ظلّ الظروف الحالية سوى ثمرة تواطؤات هامشيّة لا تطال جذور الأزمة المركّبة وقد تقاطعت فيها على نحو غير مسبوق لاعدالة طائفية متمثّلة بشعور طوائف كبرى بالغبن السياسي مع لاعدالة اجتماعية متمثّلة في ضياع حقوق الأفراد وتعمّق التفاوت الاجتماعي بين اللبنانيين بفعل الانهيار الاقتصادي وبدفع من سياسات السلطة والمصرف المركزي.

يحصل ذلك في وقت لا تبدو فيه القوى السياسية، وبالأخصّ الطرف الغالب حزب الله، عاجزةً عن المبادرة السياسية وحسب، بل وعن تقديم قراءة منطقية للأزمة تعكس فهمها لها ونيّتها إيجاد حلول حقيقية لها.

إنّ هذا الأمر كافٍ للتشكُّك في الشرعية السياسية والأخلاقية لهذه القوى، التي تُظهر يوماً بعد يوم أنّها ليست على مستوى الأحداث وغير مسؤولة وتملك نظرة مشوّهة عن نفسها وعن البلد. والأخطر أنّ الأكثر رفضاً بينها للتدخّلات الخارجية، أي الحزب، هو الأكثر استدعاءً لها عن سابق تصوّر وتصميم بعدما بلغت غلبته على الداخل حدّاً ما عاد يمكن معه استنهاض أيّ مبادرة داخلية باتّجاه الحلّ.

عيوب "هامشيّة"

يمكن هنا إيراد مَثَلين من أحداث الأسبوع الجاري عن قدرة الجسم السياسي على عزل نفسه عن الأزمة، وإن كان يُظهر بذلك مقدار انحطاطه السياسي والأخلاقي بفعل انعدام حساسيّته تجاه ضحايا هذه الأزمة.

المثل الأوّل هو السجال بين رئيس الحكومة ورئيس التيار الوطني الحر، الذي رسم سلّماً غريباً عجيباً للمعايير الأخلاقية، بحيث أصبح عيب جبران باسيل أنّه تشكّك في إيمان الوزراء المسيحيين غير المحسوبين عليه، فيما أصبح عيب ميقاتي أنّه أفشى مداولات لقاءاته مع باسيل، وكأنّ الرجلين لا يتشاركان المسؤولية عن فشل الحكومة لأكثر من عام في اتّخاذ إجراءات عمليّة توقف تمادي الانهيار وتقلّل أعداد ضحاياه من كلّ الشرائح الاجتماعية والأعمار، فيصبح العيب الكبير تفصيلاً أمام العيوب "العاديّة" التي لا تشكّل معياراً يُبنى عليه في الحياة السياسية اللبنانية التي ينخرها السفه والانحطاط طولاً وعرضاً.

المثل الثاني هو اللقاء بين وفد حزب الله وباسيل. هذا اللقاء، الذي خطف الأنفاس وشخصت إليه العيون، صُوِّر وكأنّه حدثٌ عظيمٌ، بل صُوِّر وكأنّه الحدث وأن لا أحداث غيره، في حين كان سعر صرف الدولار يسجّل ارتفاعات قياسية دافعاً بمستويات المعيشة في لبنان إلى أسفل درك. مع ذلك طمأن المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله اللبنانيين إلى أنّ الحزب والتيار يسيران في اتجاه واحد من دون أن يعتبر نفسه معنيّاً بالمسار التصاعدي لسعر الدولار بكلّ ارتداداته الكارثية على اللبنانيين.

أيّ جدوى سياسية ووطنية لهذا اللقاء إن لم يكن مرتبطاً بوعي مخاطر الأزمة والسعي إلى تخفيف حدّتها. انتظر الكثيرون هذا اللقاء فإذا به من أوّله إلى آخره يحصل وكأن لا أزمة في البلد إلا الأزمة بين التيار والحزب، وهو ما يدخل في باب الغباء السياسي والاستعلاء على الشعب والاستخفاف بمصيره. وهذه ليست حال الحزب والتيار وحسب، بل كلّ القوى السياسية التي باتت تعيش في واقعٍ موازٍ.

بين السيّئ والأسوأ

والحال هذه، يدفع سقوط الحسّ السياسي السليم إلى عدم توقّع حلول منطقية للأزمة ويعرّي مضمون الدعوات إلى الحوار والتوافق الداخلي، إذ لا يمكن أن ينقلب مسار الغلبة إلى مسار توافق إلّا إذا تحوّل التوافق أداة للغلبة. لكنّ المسار اللامنطقي للأحداث يدفع أيضاً إلى توقّع تسوية "غير منطقية" باعتبار أنّ عدم قدرة الأطراف الداخلية على ضبط تسارع الأزمة والبقاء خارج ارتداداتها سيضعف قدرتها على التحكّم بطبيعة التسوية. وهذا ينطبق على حزب الله بالدرجة الأولى، إذ إنّ عجزه عن إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية، حتى من خلال نتائج اتفاقية ترسيم الحدود مع إسرائيل، سيجعله يرضى برئيس "أميركيّ" لكن لا يطعن المقاومة في الظهر، وهذا يعني أنّ قدرة الرئيس الجديد على الحكم ولو بالحدود الدنيا غير متوقّفة على اطمئنان المقاومة إليه، بل على حصوله على غطاء عربي ودولي لحكمه، وهو غطاء أميركي بالدرجة الأولى.

إنّها إحدى المفارقات الكثيرة التي يختزنها الواقع اللبناني، هذا الواقع الذي ما عاد النظام السياسي قادراً على استيعاب تناقضاته وإدارتها، خصوصاً مع تزامن اللاعدالة بوجهَيْها الطائفي والاجتماعي في وقت يستحيل العبور إلى نظام بديل. وهو ما يجعل المراوحة بين السيّئ والأسوأ سمة الوضع اللبناني الراهن!

إيلي القصيفي - اساس ميديا

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا