تلازم الانهيار النقدي وتفكّك أرضية الدولة
إذا كانت الهواجس اللبنانية تنحو باتجاه تصاعديّ منذر بتفاقم تفكّك البلاد مؤسّساتياً، فإنّ غياب المعالجات الإصلاحية الجذرية يضاعف قتامة الأوضاع البائسة. وتكاد الانطباعات المعبّر عنها من ممثلين لصندوق النقد الدولي أمام أوساط مالية - مصرفية لبنانية رفيعة تكفي للإشارة إلى إحباط ملحوظ تجاه حال لبنان وطريقة مقاربة المسائل لبنانياً، التي لا تزال بعيدة عن تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية البديهية بالشكل الجذريّ. وفي السياق، تلفت معطيات "النهار" إلى أن التشخيص الأحدث الذي قَرَأ من خلاله ممثلون عن صندوق النقد للواقع اللبناني، أشار إلى مشاعر يأس وأسف خارجي نتيجة غياب استيعاب القيّمين اللبنانيين الفعلي للحجم الانهياري الذي تتكبّده البلاد، وعدم قياسهم عمق الصعوبات أو المبادرة للتعامل بجدية مع المخاطر المحدقة نتيجة التقاعس الاصلاحي وسط الانهيار. ويلتمسون نوعاً من الاستلشاق لبنانياً حيال مدى أهمية الحصول على مبلغ 3 مليارات دولار من صندوق النقد، مع إغفال محلي بأنّ هذا المبلغ سيكون بمثابة مقدّمة للقدرة على الإتيان بمساعدات وقروض واستعادة علاقات لبنان مع المجتمع الدولي. ومن جهتهم، يقلل المتابعون المحليون من جدية المعايير الاصلاحية المتخذة على النطاق اللبناني، باستثناء الحدّ الأدنى كإجراءات معتبرة شكلية، ولا يمكن تصنيفها في خانة العمل على بلورة إصلاحات حقيقية التي بات واضحاً أن هناك معارضة داخلية مستمرة للمباشرة في تنفيذها. وفي وقت يبدو الامتعاض الخارجي واضحاً حيال غياب التنفيذ الجذري للاصلاحات المطلوبة، إلّا أنّ صندوق النقد لا يمكنه إجبار بلد معيّن على التعاون إذا كان هذا البلد المعني لا يتجاوب مع مقاربته ولا ينفذ إصلاحات.
يبقى الانهيار التدريجيّ في سعر صرف العملة اللبنانية "الشغل الشاغل" لاهتمامات اللبنانيين، والذي يعطي صورة حقيقية عن الاوضاع غير المريحة في البلاد. وبمعنى أوضح، يعتبر سعر الصرف مرآة للواقع اللبناني وسط تدرج يوميّ في سوء الأحوال. وتتناقل معطيات على نطاق مصرفيين كبار أنّ السبب الأساسيّ الذي أدّى إلى هذا الارتفاع المتسارع في سعر الصرف خلال الأيام الماضية، هو شراء مصرف لبنان للعملة الصعبة بغية تغطية التمويل الذي يمنحه، بما يشمل إعطائه سلفة الكهرباء بقيمة 100 مليون دولار حديثاً، وحاجته إلى وقت زمني للقدرة على استرجاعها، إضافة إلى التكاليف التي يُنفقها من شرائه الدولار، ما يقلّل من تقلّص ما تبقّى من احتياطي لدى المصرف المركزي في وتيرة أقل تسارعاً. ولا تزال معضلة الكهرباء "العقدة اللبنانية الأساسية" في وقت تُحصّل شركة كهرباء لبنان الفواتير العائدة إلى مرحلة كانت سبقت التعديلات الطارئة على التعرفة، من دون إغفال تبعات التقلبات المستمرّة في سعر صرف الليرة.
انهيار العملة اللبنانية الذي يكرّر سيناريو ثمانينات القرن الماضي، تبدو انعكاساته أكبر اليوم على تفكّك البلاد بالنسبة إلى مقارنة المصرفيين، لناحية أن واقع المصارف كان أقل سوءاً في أيام الحرب، وسط مرحلة يعتبرونها أشدّ وطأة وأكثر صعوبة راهناً في غياب العمل الطبيعي للمصارف وتحوّل البلاد إلى الاقتصاد النقدي الذي يعني الاتجاه الى إعادة النظر في كلّ المسائل. وتاريخياً، تراوح سعر صرف الليرة اللبنانية بين عامي 1964 و1981 بين 3.22 ليرات و 3.92 ليرات. وبدأ لبنان يشهد انهياراً متسارعاً للعملة الوطنية بدءاً من آذار 1981 حيث وصل إلى ما يقارب 4 ليرات مقابل الدولار. ولم يتوقف منحى الانهيار في سعر الصرف حتى بلغ منتصف عام 1982 إلى ما يقارب 5 ليرات لبنانية. ثم وصل سعر الصرف الى قرابة 550 ليرة للدولار عام 1987. وواصل ارتفاعه إلى 880 ليرة في العام 1991 حتى وصل في صيف 1992 إلى 2880 ليرة، وإلى 1900 ليرة أواخر العام نفسه. واتُّخذ قرار بتثبيت سعر الصرف عند حدود 1507.5 ليرة للدولار الواحد في حزيران من العام 1999.
وفي غضون انهيار العملة الراهن الأشدّ وطأة اليوم، ثمّة مخاوف من التفكّك الكليّ للمؤسسات العامة، وسط الاكتفاء بمعالجات قليلة تعتمد القدر الضئيل من الإجراءات الترقيعية، ما يؤخّر قدرة البلاد على استعادة التعافي. ويقضي تدهور سعر الصرف على فرص إحياء الادارة مع انعكاس انهيارها على تفكّك البلاد بدءاً من قطاع التعليم الرسمي الذي يمثّل وحدة البلاد. ويقول الاقتصادي إيلي يشوعي لـ"النهار" إن "ركائز الدولة تتفكك يومياً في لبنان. ويُقصد بذلك تفكك الادارة الرسمية والخزينة المالية العامة والنظام النقدي والمصرفي والقضاء وسعر صرف العملة اللبنانية والوضع المنهار للقطاع الخاص وتوسّع رقعة الفقر اجتماعياً وتدهور نوعية الخدمات العامة. وبعدما أصيبت ركائز الدولة بالعطب، تصبح مهدّدة بالسقوط، مع مواجهة الشعب للفقر الذي يتوسّع أكثر". ويشير يشوعي إلى "غياب الاحتياطات داخل اقتصاد البلاد من العملة الاجنبية المتمثلة في الودائع بالمصارف المحلية التي تبخّرت. وأكبر برهان على ذلك عجز المصرف المركزي عن التدخّل في السوق الحقيقية. فماذا يمنع مصرف لبنان من التدخّل في السوق الحقيقية، لا الموازية، إذا كانت لديه القدرة على ذلك؟ سقوط النظام النقدي يؤدّي إلى تفكك لبنان عملياً. وحتى اللحظة لم تقفل المناطق اللبنانية على بعضها البعض ولن تقفل، لكنّ المشكلة ليست في الناس بل تتمثل في التفكّك المؤسّساتيّ والسياسيّ. يحتاج الشعب إلى دولة راعية مع إدارة سليمة صحيحة ومسؤولين أكفّاء يديرون البلاد".
"النهار"- مجد بو مجاهد
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|