انهارت دولة لبنان ومؤسّساتها ما عدا الجيش فهل يصمد؟
أقطاب السياسة اللبنانية من الموارنة مشغولون بسد الفراغ في رئاسة الجمهورية، ويبذل كل واحد منهم ما يستطيع من جهود مع ناخبي الداخل من المسيحيين والشيعة والسنة والدروز ويعطي كمية من الوعود يعرف في داخله أنه لا يستطيع تنفيذها كي يحظى بتأييد هؤلاء.
وغير الأقطاب من الموارنة سواء كانوا أعضاءً في مجلس النواب أو شاركوا يوماً في حكومة أو في نشاط سياسي غير ذي أهمية أظهروا فيه "مواهبهم" يصلّون، هذا إن كانت صلواتهم مقبولة، كي يكون لهم حظٌ في سد الفراغ الرئاسي. ويقدّمون في الوقت نفسه وعود الطاعة والولاء واحترام الوعود والسياسات للناخبين الكبار ولا سيما لغير المسيحيين منهم. والجميع وتحديداً من له منهم اتصال ما مع ناخبين كبار غير لبنانيين من عرب وعجم وغربيين يبدي استعداده أمامهم لخدمتهم أو بالأحرى لخدمة مصالحهم إذا ساعدوه في التربّع على كرسيّ الرئاسة. هؤلاء لا يفوّتون فرصة للاتصال بالناخبين المحليين الكبار وللتطوّع لحل مشكلة تهمّهم لعلّ وعسى يقترب هؤلاء منهم ويحقّقون مطامحهم.
لكن من يتابع الحركة الرئاسية لغالبية الطامحين الموارنة سواء استحقوا الموقع الأول في البلاد أو لم يستحقوه يعرف أن المسيحيين اللبنانيين الموارنة مستغرقون في لعبة كرسيّ الرئاسة غير عابئين عملياً بالأثر السلبي الذي لا بد أن يتركه ذلك يوماً على دورهم في لبنان، بل على وجودهم في ظل الخلل الديموغرافي بينهم وبين المسلمين سواء اجتمعوا سنّة وشيعة أو انقسموا. وهو خلل مرشّح للتفاقم خلافاً لكل تطمينات القادة المسيحيين النابعة من رغبة في الاستئثار بالزعامة الشعبية وبكرسيّ الرئاسة إذا تمكنوا من ذلك وليس في إقامة دولة عادلة وجدّية مطمئنة لشعوب لبنان وقادرة مع الوقت على إعادتهم شعباً واحداً، وهم كذلك، ولاؤه له وطناً كياناً ودولةً وليس للطوائف والمذاهب وقادتها. والفرق كبير بين الأديان وقادتها وبين الطوائف والمذاهب والشِيَع وقادتها. وتلافياً لاستمرار التنظير على هذا الصعيد يمكن الإشارة بإيجاز الى أمور ثلاثة. الأول تمسّك رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل بالرئاسة بقوة وعدم استعداده للتخلّي عنها إلا بانتخاب رئيس يختاره هو ويحكم من خلاله تمهيداً لخلافته بعد انتهاء ولايته.
وهذا موقف جعله يرفض أي مسيحي آخر "قويّ" علماً بأن القوة نسبية عند الجميع مثل قائد الجيش الجنرال جوزف عون وزعيم "تيار المردة" سليمان فرنجية، وعدم تخلّي رئيس "حزب القوات اللبنانية" سمير جعجع عن حلمه الرئاسي رغم تخلّيه عنه رسمياً هذه المرّة. وعند متابعي الوضع الداخلي بكل تشعباته الخبر اليقين عن هذا الأمر. ومعلوماتهم تفيد أن باسيل "المزروك" رئاسياً وسياسياً يحاول الانفتاح على جعجع ويسعى الى لقاء معه، وقد وسّط لذلك جهات عدّة بعضها ديني يمتلك نفوذاً مهماً. الهدف المُعلن من ذلك توحيد المسيحيين باعتبار حزبي الاثنين يمثلان غالبية هؤلاء. لكن الهدف الفعلي مختلف. يظهر ذلك من خلال ردّ جعجع على محاولات اللقاء بالآتي: "الاستعداد للقاء والبحث متوافر لكنّ له ثمناً أو بالأحرى شرطاً من اثنين. الأول انتخاب مرشّح "القوات" نائب زغرتا ميشال معوّض رئيساً والثاني انتخاب سمير جعجع رئيساً". والأمران صعبان على باسيل بل مستحيلان.
يلفت المتابعون أنفسهم الى أمر آخر يطاول الحليف العربي لـ"القوات" ولجهات سياسية أخرى في لبنان أي المملكة العربية السعودية، فيقولون إن "محبّي" جعجع اللدودين أبلغوها أن حليفها القواتي خالف في إطلالة تلفزيونية أخيرة له موقفها الداعي الى "وحدة" لبنان بتلويحه لـ"حزب الله" بالاستعداد للبحث في خيارات أخرى لمستقبل لبنان وذلك بقوله بما معناه "ابقَ مسيطراً حيث أنت ونحن نلجأ الى خيارات أخرى".
واستُنتج أن الفيديرالية هي أحد الخيارات أو ما هو أكثر منها. وعندما فاتحه "ملائكة" المملكة بذلك نفى الأمر وقال: "على العكس كان للكلام الذي قلته أثره إذ بدا السيد حسن نصرالله الأمين العام لـ"حزب الله" أكثر هدوءاً في إحدى إطلالتيه التليفزيونيتين الأخيرتين".
هذه هي الحال المؤسفة عند المسيحيين فماذا عن الحال عند المسلمين؟
لا يمكن هنا تناول وضع المسلمين عموماً لأنهم منقسمون عملياً شعبين شبه متساويين ديموغرافياً رغم تفاوت التأثير بينهما في هذه المرحلة من جرّاء وحدة أحدهما شبه الشاملة أي الشيعة وحيازته قوة عسكرية محلية وإقليمية تفوق القوة النظامية للبنان، كما من جرّاء غياب الزعامة الكبيرة الموحّدة للشعب الآخر أي السنّة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري عام 2005، ثم بعد تعليق ابنه الذي ورث الزعامة عمله السياسي قبل سنوات قليلة واغترابه في دولة الإمارات العربية المتحدة وعدم وجود إشارات الى عودةٍ سياسية له قريبة الى بلاده. لهذا السبب لا بدّ من كلام عن مستقبل كل منهما. فالشيعة بزعامة "ثنائية حزب الله وحركة أمل" وبسلاحهم كما بحلفهم مع "التيار الوطني الحر" المسيحي ونوّابه حتى الآن صاروا مقصداً للمسيحيين أو لبعضهم الطامح الى الرئاسة الأولى. وصاروا مقصداً للسنّة الطامحين الى موقع رئاسة الحكومة. لكن التشرذم السنّي وابتعاد الحريري الابن عن السياسة صارا حقيقةً لا يمكن تجاهلها، إذ توجّه البعض الى "الحزب" والبعض الآخر الى "الحركة" من أجل رئاسة الحكومة وخدمات أخرى. كما توجّه البعض الآخر الى المسيحيين أحزاباً ومرجعيات دينية كي يوصله الى رئاسة الحكومة. ما يمكن قوله في هذا المجال هو أن حظوظ المسلمين السنّة المعتمدين على المسيحيين فقط للوصول الى رئاسة الحكومة ضعيفة جداً هذا إن كانت موجودة أساساً، ولا سيما في ظل وحدة الشيعة والتشرذم السنّي ونجاح شخصيات سنية في استعداء عدد لا بأس به من النواب السنّة كما في استعداء الشيعة "أملاً وحزباً". ويبدو أنه غاب عن هؤلاء أن حاجتهم الى الشيعة والسنّة للحصول على رئاسة الحكومة تشبه حاجة المسيحيين إليهما للتربّع على سدة الرئاسة الأولى.
في النهاية لا بد من القول للسياسيين من كل الشعوب "أنتم فين ولبنان فين"؟ فدولة لبنان انقسمت ثلاث دول وعملت فترة بإدارة سوريا الأسد.
وبعد خروجها منه تنافست وأخفقت وأصبحت كلها فاشلة وانهارت مؤسساتها على تنوّعها كلها بحيث لم يعد يجمع اللبنانيين إلا الفقر والذلّ والتعصّب والاستزلام. طبعاً صمد القضاء مدةً رغم الصعوبات لكن "المرض اللبناني" تمكّن منه فانقسم أخيراً وصار أقرب الى الانهيار وهذا أمرٌ مخيف إذ لم تبق صامدة إلا مؤسسات الجيش والأجهزة الأمنية. فهل يستمر صمودها وتسهم في استعادة الوحدة أم تفرط وتدفع البلد نحو نهاية محتومة مؤسفة وحزينة؟
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|