عربي ودولي

الزلزال كغضب من عند الله... وما أدراك بأسراره

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

الزلزال ليس غضباً من عند الله.
ولّى، منذ آلاف السنين، الزمن التوراتي الذي كان الله خلاله يتدخل شخصياً لمعاقبة عبيده أو أعدائهم بالطوفان والبراكين والزلازل والضفادع وقتل الرُضّع. ما عدا النشاطات الطبيعية المعتادة للكرة الأرضية بالقتل الجماعي لكائناتها بين فينة وأخرى، وفي مناطق متفرقة من الكوكب، فقد ترك الله للبشر أنفسهم أن يتولوا قتل بعضهم بعضاً من دون أدنى تدخل، وقد أبلوا، والحق يقال، بلاء حسناً في هذا المضمار.

ليس غضباً من السماء. لهذا السبب بالتحديد، ما زال معظم الناس يصرّون على اللجوء إلى الله حين يجدون أنفسهم في مواقف معقدة تفوق إدراكهم وسعة صدرهم، مثل أن تموج الأرض بهم، ولا يدرون حقاً ماذا يفعلون إلا أن يندهوا باسمه وباسم قديسيه الموزعين بينهم كل بحسب دينه واختصاصه. يرتجلون الصلاة وليس لهم، في لحظات يأسهم التي يظنونها أخيرة، إلا رحمته العظيمة. ليس لهم إلا تلك الثقة الجارفة بأنه لم يحرّك الصفائح تحتهم لينتقم منهم هم بالتحديد، بل تحركت لسبب آخر، قد يكون شيطانياً ولا أحد أقوى منها، ومن الموت نفسه، إلا خالقها وخالقهم ليحميهم من شرّها.

لكن لا. ثمة واعظ ما، في مكان ما، لم يتخط بعد أعجوبة قدرته على وضع وجهه في عدسة هاتفه، لتصل صورته مع صوته إلى الكوكب برمته. شخص يتراوح عمره بين الخامسة عشرة والخامسة والثمانين، يسمي نفسه ما شاء، رجل دين، إنفلونسر، دوستويفكسي إنستاغرام، داعية تيك توك، لا ينتظر على الأقل إلى نهاية الهزة، ليخرج مهللاً: هذا الزلزال عقاب من الله.

يطلق رأيه الحاسم هذا، ويضرب قدمه بالأرض، ويستعد للهجوم على أي لون أحمر حوله. لا يعود مستعداً لأي استفسار ليس في كيفية حصوله على هذه المعلومة المصيرية، وقد انقطع الاتصال المباشر بين السماء والأرض منذ أكثر من 1400 سنة. ليس مستعداً لأن يفسّر لماذا يغضب الله على قرى آمنة مؤمنة في سوريا، بينما يغض النظر عن لاس فيغاس، مدينة إبليس التي كان من الأفضل أن يقلب أعلاها أسفلها قبل تأسيسها حتى، لعلمه المسبق أي معاصٍ سترتكب فيها على مدار الساعة. ليس مستعداً لأن يشرح لماذا يفسد علاقة الله بالناس؟ ماذا يستفيد؟

فجأة يقرر، من موقعه العالي على الكنبة، حيث يشرف على العلوم البشرية برمتها، أن يحمّل عشرات الملايين من البشر ذنباً لا دخل لهم فيه يضاف إلى الكارثة الهائلة التي يمرّون فيها، والتي تقضي على أرواحهم أو تتركهم بجروح نفسية وجسدية لن تندمل لما تبقى من حياتهم، وتجعل حاضرهم حالكاً ومستقبلهم أشد حلكة. يذنّبهم ليس لصدفة أنهم يعيشون فوق أرض معرضة للزلازل، بل لأنهم أغضبوا الله. هؤلاء الأطفال الذين يسحبون من بين الركام ماذا فعلوا خلال السنوات الست كحد أقصى التي عاشوها حتى الآن كي يلقنهم الله مثل هذا الدرس العنيف؟ لا هم يعلمون ولا نحن. فقط الواعظ الديني على تويتر يعلم. وهو، فوق ذلك، غامض ومتكتم، لا يضيف على نبوءته إلا آية من القرآن ينسخها ويلصقها في التغريدة، لا يفهم ما الذي تعنيه ولا في أي مناسبة نزلت. نحن غير مهمين، المهم أنه أمرنا بالمعروف ونهانا، بعد زلزال، عن المنكر، ونال ثواباً جديداً، يضاف إلى رصيده في القصور التي يبنيها لنفسه في الجنة.

مثله، هذا المخلوق الافتراضي، موجود في وسائل التواصل أكثر من الغبار في بيت مهجور. يقفز، في مناسبة ومن دونها، ليدلي بأسوأ رأي ممكن في أي حدث، من عدم جواز الترحم على غير مسلم، إلى السؤال عما فعلته امرأة لتتسبب بمقتلها على يد والدها وشقيقها وزوجها، إلى نظرياته الخاصة الشاملة كل العلوم، من الفيزياء إلى الاجتماع. قد يمكن تخطيه لولا أنه يضم مؤثرين فعليين، لهم جمهورهم من المؤمنين الصادقين، الذين يحفظون مقولاتهم الخرقاء، ويعيدونها من بعدهم بتشويه أعمق وأسوأ من الأصل، ويحولون هذه المساحة المفتوحة إلى مصنع لتخمير الترهات السامة التي تبتلع وهي تنفجر معظم البديهيات، التي منها أن الأرض لا تهتز وتقتل هذه الأعداد المهولة من البشر لتترك لنا إنذاراً كي نعود إلى الله، أو تكتب لنا حكمة ركيكة نتداولها بيننا تذكرنا بأن نحب أصدقاءنا ثلاث مرات في اليوم. ترهات تبتلع تعاطفاً صادقاً ليس في أيدي العاديين غير السوشال ميديا للتعبير عنه، يهجم حرّاس العلاقة مع الله عليه ليقرروا عنا أن التعاطف مع الضحايا ليس وقته، وأن الفرصة التي أعطيت لنا بالبقاء أحياء ينبغي علينا استغلالها إلى الأقصى في الأنانية المطلقة، في التفكير فقط بكيفية محو ذنوبنا السابقة وعدم تكرارها، كي نخفف ما استطعنا الغضب فنمنع الزلازل أو نؤجلها كي تنال من أجيال لاحقة. بالعودة سريعاً إلى الله، وبما يشبه التشفي من الضحايا، تتوقف الزلازل في مناطقنا، وتنتقل أخيراً إلى لاس فيغاس التي لا يؤجل نهايتها المرتقبة إلا المعاصي التي يرتكبها الأطفال منذ فترة بعيدة على طرفي الحدود بين سوريا وتركيا.
بانعدام الأخلاق وحس التضامن والنبل، ننجو من الزلازل.. بتحميل الله والضحية معاً ذنب الكارثة، وكلاهما بريء من هذا الذنب.

 

كلما زاد عدد ضحايا زلزال الاناضول، وحجم الصور المروعة، لا سيما الاطفال منهم، كلما ارتفع ترتيب المأساة على لائحة الكوارث الطبيعية الأسوأ في تاريخ البشرية.. وتعمقت الأسئلة "الساذجة" التي تتكرر الآن حول كوكب الارض ومستقبله، وحول السيطرة المزعومة لسكانه على طبيعته ونظامه وحركته وما إذا كان للحياة على هذا الكوكب من نهاية، يوماً ما.

زلزال الاناضول الاخير، مثل غيره من الزلازل المدمرة، هو تذكيرٌ متجددٌ بأن الانسان الذي يدعي الهيمنة الشاملة على الكرة الارضية، ويزعم أنه يفهم بالمطلق شروط العيش عليها، ويطلق بدقة متناهية تقديرات مستقبلية علمية، ويقوم برحلات إستشكافية الى الفضاء المحيط بها، ما هو إلا مبالغٌ، أدمن على تضخيم إنجازاته العلمية المتواضعة، ولم يكتسب سوى القليل من المعارف والمعلومات التي كان يجهلها الاسلاف من البشر على مدى يزيد على ثلاثة مليارات سنة الماضية من الإقامة على هذا الكوكب.. والتي لا تقارن حتى بالعلوم التي انتجتها حضارات انسانية سابقة، وما زالت أسرارها ورموزها غير مكتشفة وغير مفككة حتى اليوم.   

زلزال الاناضول، كغيره من الزلازل الكبرى، كان بمثابة ضربة موجعة، تقوض ذلك الادعاء المتكرر بأن الحضارة الانسانية الراهنة بلغت الحد الاقصى من التقدم، بعدما حققت انجازات علمية باهرة في مختلف المجالات، واكتسبت مهارات لم يسبق لها مثيل، وانتقلت من مرحلة تطويع الطبيعة وتكييف الحياة على الارض الى مرحلة توجيهها والتحكم المطلق بها، وتالياً البحث عن آفاق جديدة للعيش خارج كوكب الارض الذي بات مكتظاً بالسكان ليس إلا ومفتقراً الى الموارد الكافية لثمانية مليارات نسمة، والتوجه الى أحد الكواكب السيّارة من المجموعة الشمسية، وأولها كوكب المريخ القريب.

الزلزال المدمر الذي يقترب عدد قتلاه وجرحاه من المئة الف انسان، أعاد فجأة الحضارة الانسانية الى سطح الارض، وتكوينه، وجغرافيته، وسجلاته التاريخية غير المكتملة، وغير المحفوظة، وغير المكتشفة، مع أنها تقع تحت أقدام العلماء والخبراء والباحثين، الذين لم يتوصلوا الى رسم علمي دقيق لجيولوجيا الكوكب الذي يقيمون عليه، ولا لطبقاته وفوالقه وحركاتها وفورات غضبها أو سرورها. ثمة رسوم تقريبية مهمة، لكن هامش الخطأ فيها هو بحجم بلدان أو مدن كاملة، ولا تصلح لأي توصيات علمية ثابتة. أما جوف الارض فإن استشكافه فلم يكن يوماً مغرياً ولا مؤثراً، عدا تلك الكيلومترات العشرة او العشرين الاولى من تحت السطح، التي تحتوي على النفط والغاز والمعادن الثمينة، او التي تخرج منها حمم البراكين.. وكذا الامر بالنسبة الى الاستكشاف البطيء والمتعثر للقطب الجنوبي الذي يمكن أ، يجيب على الكثير من الاسئلة الأولية حول تكوين الارض ومقدمات الحياة البشرية عليها.

هذا "الخلل" في مسار العلوم الانسانية، الطبيعية، الذي افسح المجال لرحلات فضائية باهظة التكاليف، وباهرة الدعاية، لكنها غير ملحة وحتى غير مجدية، أخضع الارض وسكانها لسلسلة لا متناهية من الاساطير والخرافات المتوارثة من الاديان الثلاثة، او من الفلسفات السبع التي سبقتها، والتي لا تزال تمثل واحدة من أهم الموروثات الانسانية، وأوسعها انتشاراً، حيث تتحكم بسلوك غالبية البشر، ولا تقتصر فقط على طريقة تعاملهم مثلا مع ظاهرتي الخسوف والكسوف، أو بقية الظواهر الطبيعية، ولا تختلف كثيرا عن طريقة التعامل مع الزلازل والبراكين والاعاصير..ولا تستبعد ان يأتي يوم يخرج فيها الناس الى الشوارع حاملين المشاعل او الطناجر او حتى اجهزة المايكروويف، لطرد شياطين الارض وأبالسة السماء، قبل ان يعودوا الى منازلهم غير الصالحة للسكن، والمبنية على صدوع جيولوجية مخيفة، او المتراكمة كأبراج وعمارات سكنية مرتفعة، مخالفة لابسط شروط الحياة الانسانية.

الحياة على كوكب الارض كانت صعبة، وستبقى، حتى اذا تمكن ثمانية مليارات انسان من فهم وتجنب كوارث الطبيعة أو بالاحرى الاخطاء المتكررة التي شهدها الكوكب والتي تدحض بوضوح اليقين الشائع بأنه يسير وفق نظام أبدي، دقيق، إلهي، يحدد دورانه حول نفسه وحول الشمس، ويرسم المسافات التي تفصله عن بقية كواكب المجموعة الشمسية.. وهي كلها حقائق نسبية متغيرة، ولو ببطء شديد، وإيقاع منتظم، يمكن رصدها بطرق وحسابات علمية غاية في الدقة. لكن لا يمكن ترويجها الى حد التكهن مثلا أنه بعد ملايين السنين، لن يظل سكان الكرة الارضية، خاضعين لنظام تعاقب الليل والنهار وتبدل الفصول والمواسم وتغير محتويات غلاف الارض، بل ربما سيضطرون الى اعتماد نظام مختلف تماما..إذا عجزوا عن الانتقال للاقامة في كوكب آخر، حسب ما يوحي زلزال الاناضول الاخير، وحصيلته الانسانية المفجعة، وخيبته العلمية المعيبة، التي تبقي نحو خمسين مليون انسان في تركيا وسوريا ولبنان وقبرص..أسرى الفراغ الهائل في ذاك الجانب من الحضارة الانسانية، ورهائن الخرافة التي تزلزل الارض ومن عليها في كل مكان.

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا