عربي ودولي

شهادات من الكارثة: حين فقدت الأرض صلابتها...‏هل يقتل الله الفقراء ليرينا قدرته؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

"درج"

نجمع هنا شهادات وصلتنا عن لحظة الزلزال، كل واحدة منها شارك فيها كاتب من “درج” ما اختبره لحظة الكارثة، نقرأ عن عدم التصديق، عن الأحلام التي دُمرت، عن العجز عن التصرف، عن احتمالات اليُتم…

وسيم السلطي – لبنان

 أين كنت ساعة حدث الزلزال؟

كنت جالساً غير هانئ أساساً. وسط عاصفة تفتح نافذة هنا، أو تسّرب ما حملته من مياه، إلى ما تحت أقدامي في الغرفة. بين يدي كتاب “حول بعض قضايا الثورة العربية” لياسين الحافظ، وأمامي شاشة التلفاز ثبتت صورتها عند نهاية مسلسل “خان الحرير”، وعلى السمع أغنية “بنساك” لـ “شب جديد”، بينما كنت أكتب مقالاً عن الراب الفلسطيني. أما فكري فساهمٌ في بيت: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه… فكل لباس يرتديه المرء جميل.

وإذا الأرض تتزلزل. ثم بدأت تتزلزل الأشياء من حولي، لكني في حينها، حسبت “فرح” العاصفة، اشتدت أكثر، الى درجة أني قفزت في أنحاء البيت أتتبع صوتاً يشبه صوت تسرب كمية كبيرة من المياه قادم الأرجاء، تكاد الحيطان تنفجر، أو قد يكون تهيّأ لي أنه كذلك، لكني لم أعثر على شيء. ثم أعدت الكرة، ذهبت إلى باب البيت تفقدته، ثم المطبخ، الحمام، الغرف، الغاز. لا شيء سوى خفقان قلبي الذي غطى على بقية الأصوات، ومياه تجمعت عند نهاية كل زاوية من كل غرفة في البيت، وبرد في العظام رافق ذلك كله – حتى الآن لم أكن أعلم بحدوث الزلزال.

بعد هنيهات، زال القلق، فحاولت النوم…

شعرت برجّة، كان مصدرها فناء البناية. نهضت إلى الباب، وإذ بالجيران يهبطون من كل مكان عالٍ إلى الأسفل. فتحت الموبايل أخيراً، لأجد أن زلزالاً بدرجة 7,8 على مقياس ريختر، قد ضرب المنطقة في تركيا نزولاً إلى سوريا، مخلفاً ضحايا وجرحى وأناساً لا يزالون تحت الأنقاض، مع ارتدادات قوية شعر بها سكان لبنان!

هببت أقول زلزال… زلزال ضرب المنطقة، لا أدري لمن! لم أخف، وإنما توترت كل خطواتي، وضربت أفكاري صاعقة من التقديرات السيئة المقبلة. في الأثناء، بعث لي صديقي من بلجيكا يطمئن عليّ، فيما أنا، ضمن بيروت، أهاتف أمي في سوريا، الساعة الرابعة صباحاً، لم تجب! على رغم أنها بعيدة من أماكن الزلزال، بيد أن تقديراتي قرّبتها، قربتها كثيراً. ذلك كله يحدث في ثوانٍ ثقيلة.

قليلاً، حتى تشنجت كل عضلاتي، وتوخّزت ضربات قلبي البطيئة، وثارت كل أفكاري  إلى أن استولت عليّ فكرة، روّعتني بقدر ما هدّأتني.

جلست إلى مكتبي، بجوار مكتبتي، على ميمنتي كتاب “حقوق الإنسان في الفكر العربي”، وعلى ميسرتي ورق وأقلام. فتحت كل الملاحظات التي دوّنتها سابقاً، نسفتها جميعاً. لا أريد أن أكتب، كل ما راودني هو الحاجة إلى النسف والسحق والحرق.

كتبت، ثم نسفت. كتبت ثم حرقت. كتبت ثم سحقت. وأخيراً كتبت… في انتظار  الارتدادات، وفي انتظار الخضات المقبلة، الطبيعية والمصطنعة والذكية والغبية، المتوقعة وغير المتوقعة، على الصعيد الشخصي أو على الصعيد العام، هنا أو هناك، لا فرق لا فرق لا فرق. كل ما صرت أعرفه الآن، أن احتمالات الموت صارت كثيرة، قريبة.

وعليه، فأنا سأرفع رهان احتمال موتي خلال السنوات القليلة المقبلة إلى 80 في المئة. وأقول: كيف لا يمكنك التنبؤ بموتك أيها المغرور؟…

محبتي..

التوقيع

لئيم لم يُكرم


عبد اللطيف حاج محمد- السويد

 الرغبة في خنق عقارب الساعة  

تعيش عائلتي على بعد 90 كيلومتراً من مركز الزلزال (خط نظر)، داخل الحدود السورية، على حدود الدائرة الثانية للزلزال، على حدود ثلاثة كيانات منفصلة (المعارضة، الإدارة الذاتية، النظام) التي تُشكل سوريا المنكوبة.

الساعة السابعة وخمس دقائق، صباح يوم الاثنين المظلم والبارد. أبحث في الإشعارات الواردة الواصلة على مجموعة “العائلة المحترمة” في تطبيق الـ”واتس أب”، تخبرني أختي “حصل زلزال، نحاول الجري في الاتجاه المعاكس والاختباء، للعيش حياة جيدة قدر الإمكان، لن أسقط، لقد نجونا هذه المرة أيضاً، الحمدلله”.

وتضيف: “نحتاج إلى مزيد من الوقت للتنفس، ونحتاج إلى التفكير، ومن المستحيل التفكير عندما يتم وضعك على جهاز الجري حيث لا يتعين عليك سوى الركض بشكل أسرع وأسرع لتجنّب سقوط الجدار. أعتقد أن ما أواجهه الآن هو أمر آخر غير التشنج، والذعر المستمر من أن ينفد الوقت”.

في رسالة ثانية يخبرني أبي: “وصلت إلى الحضيض  للمرة الأولى، كم أحاول جاهداً ألا أستسلم عندما يكون كل ما أريد فعله هو ذلك”.

أردّ عليه، ماذا تفعل في الحضيض؟ هناك شيء ما لا يزال يحدث، الأشياء تتحرك، نحن نخطط للقائنا الأول في اسطنبول في الخريف المقبل. لا أستطيع أن أتجول في مساحة لا نهاية لها وحدي، انتظرني!!

في الأحوال العادية، لا تكون المحادثات بيني وبين أهلي رمزية بلغة أسلوبية ضيقة، لكن والدي نجح في تصوير الحياة اليومية ورحلة التحول والعلاقة مع الموت، داخل الكارثة.

 “كان خط الأفق غير واضح، والتقت الأرض بالسماء، وكان الأمر أشبه بالتحديق في غرفة فارغة حيث لا يوجد أثاث. لقد فوجئت بأن هذا الفراغ لم ينفجر في حالة من الذعر في جسدي، لأنني كنت بحاجة إلى الحياة والحركة، ولكن بدلاً من ذلك بدأ الموت ينبت ببطء، أشخاص يستمرون في الموت وآخرون ينتظرون الموت”.

كانت هناك تمثيلات مختلفة  للخوف في العائلة، سألت أختي: هل تعرف كيف تشعر والدتي؟ تجيب: “لا، لكنها ممدة بجانب أبوي أمام صوبة الحطب و تتنفس”.

في العادة أمي هي من تقرر كل شيء في المنزل، إنها نسوية بالفطرة. كان من المخطط أن نلتقي في بيروت بعد شهر من الآن، قبل رمضان.

في رسالة بصوت أختي مرة ثانية: “بابا يتنفس، ثابت تماماً، يستلقي بشكل مستقيم أمام مدخل الغرفة، والأحذية مصفوفة بدقة أمام العتبة”. 

أختىي التي أحدثكم عنها، تستطيع تمييز كل أنواع الأصوات المرتبطة بالحرب، تخبرني أحياناً، عن الفرق بين صوت طائرة السوخوي الروسية، و طائرات الـF16 الفرق بين صوت قذيفة تطلقها دبابة، وقذيفة المدفع. إنها تتقن الحرب.

“عبد، هذا الصوت يشبه نهاية العالم، كل الأصوات في واحد”.

في الطريق إلى المنزل، وصل إشعار جديد من زوج أختي، “رفيقك على الكرسي المتحرك مفقود، نحن نحاول إخراجه من تحت الركام، في انتظار ذلك، سنقوم بدفن أطفال الجيران”. ضاقت عيني، جلست القرفصاء بجوار محطة الترام، أضغط كفي على الاسفلت الرطب. لا أعتبر نفسي متأثراً بشكل كبير أثناء القراءة، نتيجة للمعرض الهائل من الأخبار و الصور، لكني ما زلت أشعر بالفراغ الغريب بعد ذلك. وفي الوقت نفسه أفكر “الموت يحيا في كل ما ينمو”. السماء تسقط علي.

شريط بحث Google الخاص بي الآن : لماذا يمر الوقت بهذه السرعة علامة الاستفهام علامة الاستفهام. كيف يمكنني إنقاذ عائلتي؟ كيف يجب عليّ التصرف في وقت الكوارث من بُعد؟ إذا كان يجب علي إعادة إنتاج أفكاري بشكل ملموس؟

أفكر بسرعة، علينا أن نترك الشهادات حية، وإحدى الطرق، بالطبع، هي الكتابة، لكن لا يمكنني العثور على الحروف الصحيحة، ولا أستطيع التهجئة، ولا الكتابة، ولا التعبير عن نفسي. العجز.

هل أنا فقط أم أن هناك شعوراً إنسانياً عالمياً بالرغبة في خنق عقارب الساعة حتى يتوقف الوقت لفترة؟ سيكون العالم مملًا بلا حدود إذا كان مفهوماً.

في طريقة للخروج من الخوف الأولي، أثناء وجودي بعيداً، أحاول زيارة ذكريات أهلي، أعني الذاكرة المشتركة، أنظر إلى كيفية وصولهم إلى ذروتهم الهشة المتلألئة.

تلومني أختي، “هناك القليل من الأدلة الباهتة على وجودك، أنت بعيد. هناك أشياء لا أتذكرها عنك، ما يجعلني غير مبالية بما تشعر الآن، لاينبغي أن يكون الأمر هكذا، لكن أتمنى أن تفهم مدى قلقي الآن، مع السلامة”.

اعتقدت أن الأشياء تؤدي وظيفتها نيابة عني. أتساءل عما إذا كنت أنا وحدي، أتساءل وأسأل على رغم أنني لا أريد أن أعرف. أنا أعرف الإجابة بالفعل، وهذا أكثر ما يخيفني.

من المسلّم به أن أبي أكبر سناً مني، لكنني أصبحت كبيراً بشكل لا يصدق بعد الزلزال، أجد نفسي مضطراً الى أن أكون أباً لوالدي، وربما يكون هذا هو الذي يشكل الجديد، والصراع بين القرابة الحقيقية – الانتماء الحقيقي – وما نعتقد أننا نختبره عندما نشارك في حياة بعضنا البعض. وكيف نرتبط ببعضنا البعض بأكثر الطرق عشوائية وإرباكاً، ونصبح ذا مغزى لبعضنا البعض. في الوقت نفسه، فإن مثل هذا الافتراض من شأنه أن يبالغ في تبسيط القصة على هذا النحو، فهو أكثر من ذلك بكثير، الى درجة أن شعري قد تلاشى إلى اللون الرمادي فجأة، وبدأت في النسيان والتلمس على أرجلي الهشة، ولم أعد أعرف الساعة. إنها طريقة لشرح الأشياء في الوقت الحاضر من دون الإفراط في التخصيص.

أنا ممتنّ جداً لأنني أستطيع كتابة هذه القطعة، في محاولة لتوثيق جزء بسيط جداً من “المأساة”.


سوريا – أنجيلا السهوي

هدم الزلزال البيوت والأحلام والسفر

نشعر كمواطنين لا نزال على الأراضي السورية، بالهزيمة أكثر من أي وقت مضى، يقولون إن الشعوب بعد الأزمات تشعل نار الأمل والانتصار قلوبها، ولكن عن أي انتصار سنتحدث ونحن نتمنى لو تعود القذائف ويرحل الفقر؟

حين حدثت الهزّة، تصدعت جدران بيوت كثيرة في دمشق حيث أقطن، على رغم كون المدينة بعيدة من مركز الزلزال، ومقارنة بما حدث في حلب وإدلب، دمشق ما زالت بخير، بيتي في الطابق الخامس تحرك وكأنه موضوع على سحابة، في لحظتها عانقت أحد الأعمدة البارزة في المنزل وأنا أفكر: هبة هواء تستطيع الإطاحة بالبيت وسينتهي كل شيء بالنسبة إلي عندها، يعاني اليوم بيتي من بعض التصدعات، والأمطار تقطر من السقف وكأنه غربال، البيت هش كثيراً، خلال هذا أفكر في أولئك الذين ما زالوا تحت الأنقاض ، والذين خرجوا من بيوتهم ولا يملكون غيرها ملاذاً.

لا شيء يبشّر بالتغيير، أو ينبئ بالإصلاح ، والزلزال كان مسماراً جديداً في نعش رجائنا بالقيامة ، تمضي أيامنا بهدوء وفتور مقززين، ولكن زلزال؟ حتى الأم الطبيعة تحاملت علينا وهزئت بجراحنا المفتوحة.

كان الزلزال بمثابة صفعة تقاطع شرودنا في الفراغ، تنبّهنا إلى أن العالم لا يكترث لأوجاعنا وحطامنا، تعالت الصرخات والهتافات: ارفعوا العقوبات عن سوريا، ولكننا نعلم أن هاشتاغاتنا و هتافاتنا وحملاتنا ستبوء بالفشل، موضوع العقوبات أكبر منا جميعاً نحن الضعفاء، وأكبر من الزلزال، إنه جزءٌ من لعبة الأمم والدول الكبرى، ولا أحد غيرنا يحمل وزر خطايا الأمم المتنازعة.

يضع الزلزال السوريين اليوم في جدلية صعبة، إذا كنتُ غير قادر على العيش هنا، كيف سأسافر وأنا لا أملك مالاً يكفي حاجاتي الأساسية؟ كيف سأهجر هذه الأرض الملعونة وأنا لن أكون سوى لاجئ موصوم بهويتي السورية؟ وأي طريق سأختار وأنا مرفوض من السفارات ومن الدول المجاورة؟ 

كنا للصدفة قبل وقوع الزلزال بليلة، نتحدث أنا وأصدقائي عن سفر أحدهم، ترك دراسته الجامعية وباع والده منزلهم لعله يصل الى أوروبا من طريق أحد المهرّبين، فيعمل ويعيلهم، أباؤنا عاجزون ويعوّلون علينا، ونحن حائرون كيف لا نخيّب آمالهم، وكيف نرحل لنتركهم وحيدين عاجزين في هذا الدمار ، هذه الأرض لا تقوى على حملنا، أثقلتنا همومنا فصارت خطواتنا ثقيلة عليها، ولكن كيف سنرحل منها مغامرين بآخر ما نملك ، سعياً الى مكان آمن ليس إلا، فنحفظ ما تبقى من كرامتنا، لكن إن كان والد صديقنا باع منزله، ماذا سيفعل من فقدوا منازلهم، كيف سنسافر نحن من كنا ننتظر بيع منازلنا التي حطّمها الزلزال؟

تهافتت المنظمات غير الحكومية والجمعيات وأفواج الكشافة لنجدة المتضررين والمنكوبين في الشمال السوري، الجميع يحاول أن يساعد، عبر تقديم الأغطية والملابس والأدوية، الجميع يحاول أن يكون جزءاً من العمل الإغاثي، والجميع يعطي وهو لا يملك الكثير، وهذا أجمل ما في العطاء، أن تعطي وأنت منكوبٌ، لا أحد في العالم يستطيع أن يفهم اليوم قدرة السوريين على التحمّل، وعلى محبة بعضهم البعض، مشاهدة الناس يفتحون بيوتهم ويعطون من مالهم القليل للآخرين تبعث على السعادة، وعلى الغضب أيضاً، كيف لأثرياء البلد أن يأكلوا ويشربوا وينعموا بخيراتها، وفقراؤها يحملون آلامها وكوارثها وحدهم! بيوتنا لا تقوى على احتمال رعشة، معظم الأبنية مصنوعة من مواد هزيلة، وبمخططات عشوائية وغير مرخصة، ثمن إيجارها باهظ جداً على رغم هشاشتها، وبعض الناس يعيشون في بيوت (على العضم)، الأبنية متراصفة بشكل عشوائي مخيف، وهي في غالبيتها متضررة نتيجة النزاع المسلح، كثيرون خسروا بيوتهم في فترة الحرب، ولم يتم تعويضهم عنها أو إصلاحها من أي جهة حكومية أو دولية، والآن هذه خسارة جديدة صعبة الإصلاح، كيف سأوفر ثمن إصلاح بيتي؟ الزلزال جعلنا ندرك أكثر أن حياتنا على كف عفريت، وحتى السقف فوق رؤوسنا هشّ أكثر من معاشاتنا ووظائفنا وآمالنا. 

نحن السوريين نواجه خطر التشرّد ونحن نعاني من الفقر أساساً، إذا تدمّر منزلي المُستأجر لن يصلحه صاحب الملك، سيطردني منه بكل بساطة، حتى من يملك منزلاً فلن يقوى على تحمّل تكاليف ترميمه، ولا توجد مؤسسة قادرة على التكفل بالإصلاحات لكل البيوت السورية.

اليوم، لا يوجد معارض ومؤيد، توجد كارثة تفوقنا جميعاً، كارثة ليست للإنسان القدرة على التحكّم بها، البيوت في سوريا مفتوحة على مصراعيها لمن شرّدته الكارثة، ولكن أين مؤسسات الدولة مما يحدث؟


سوريا – مرح الدخل الله

 في اليوم الثالث، استيقظ الألم

إنه اليوم الثالث بعد الزلزال في سوريا، وما زلت عاجزة عن الحزن بشكلٍ كافٍ، لم أستطع حتى البكاء، ربما يساعدني ذلك بأن أكون أفضل. أشعر بألا طاقة لي على تحمّل المزيد من أخبار الألم، وملاحقة الصور، والفيديوات وأرقام الضحايا، وبدل ذلك أشارك أسماء وأماكن الجمعيات والمنظمات التي بإمكانها المساعدة، بالإضافة إلى أرقام مراكز الإيواء، كما أبحث عن روابط التبرع لضحايا الزلزال لأشاركها على صفحاتي الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، أحاول أن أشتت ذهني عن صور الأطفال تحت الأنقاض، أنكر أن هذه الصور في سوريا، أستقبل الحقائق بالتنقيط، فلا قدرة لي على الاستيعاب الكامل للصدمة.

إنها طريقة تعاملي مع الألم منذ بداية الحرب في سوريا، تجزئة الحدث الصعب، فأستقبل كل يوم قسماً منه، أهرب من الصدمات الفورية، ولذلك كنت أعبّر عن حزني وألمي بعد وقتٍ من وقوع الكارثة.

أشارك صديقتي بما يحدث معي:

“تخيّلي عم غمّض عيوني، عم حاول ما شوف الصور ولا أفتح الفيديوهات، وإذا شفتن عم حاول ما ركز بالتفاصيل”، لتؤكد لي أنها تتبع الطريقة نفسها في التعاطي مع كل ما يأتي من السوشل ميديا، إذاً جميعنا نحاول ألّا أن ننهار. لا قدرة لنا على استقبال مزيد من الألم والموت والدماء والقهر والضحايا، لا قدرة لنا على استيعاب أسئلة مثل، لماذا نحن؟ وكيف من الممكن التعايش مع هذا الكم من الظلم والقهر؟ صور الملابس الشتوية والبطانيات

والسلل الغذائية والأدوية وحليب الأطفال… هي صور رافقتنا طوال 12 عاماً، صور التبرعات والتعاطف المحلي والدولي معنا لأننا سوريون، وحاجتنا الدائمة إلى الإغاثة والعون أضفت على شخصيتنا عنصر الهزيمة الدائم، نتعامل مع الهشاشة كأنها مقبولة

وطبيعية، ننتقل من كارثة الى كارثة ومن ألم عميق إلى ألم أعمق، الى درجة الخدر العاطفي الذي أشعر به الآن، أنا وكثر من السوريين غير قادرين على الشعور بالألم مجدداً، والأصعب أننا غير قادرين على الشعور بالحياة والتفاعل معها، إننا في وسط العدم والألم تماماً.

كيف نستطيع التعاطي مع الحياة مجدداً، بأثقال جديدة وذاكرة ألم جمعية خزّنت الكثير من الندوب والجروح العصية على النسيان،

كيف نتجاوز ميزان العدل المائل وغير المتوازن؟

أتساءل، هل نستطيع بدء يومنا بفنجان قهوة صباحي أم هذا يسيء الى ما يحدث حولنا؟ هل نحن ما يُدعى بالناجين المثقلين بالشعور بالذنب والعجز! حقاً هذا كله كثيرٌ علينا.

هل علينا أن نمتنّ لسلامتنا أو نخجل من الحياة التي أعطتنا فرصة إضافية للعيش ولم تعطها لغيرنا؟ هل بإمكاننا أن نرتدي

ثيابنا الملونة المعتادة أو نلجأ الى الأسود والرمادي؟ هل من المنطقيّ أن نعمل اليوم لأن الأزمة الاقتصادية والأحوال المعيشية لن ترحمنا وتشفق علينا، بل ستستمر مع إضافة أزمة وكارثة جديدتين؟ ماذا سنفعل مع هذه المصاعب والهموم والكوارث كلها؟

إننا أشد ضعفاً منها.

لنمشي ببطىء، لنحيا بهدوء، لنأكل وجبتنا بصمت، ولنبكي بصوت عالٍ إن استطعنا، فحتى البكاء أصبح خياراً غير متاح، احتراماً لمن ينادي تحت الأنقاض، احتراماً لدائرة الوجع القريبة جداً من دمشق،

وهكذا نجمع التبرعات ونساعد بكل قدرتنا لعلّ شعور العجز تخفّ وطأته على صدورنا، ثم نصرخ إلى الله بالعتاب والاستغاثة سائلين الرحمة والصبر.

كل ما أدركه اليوم أن أربعين ثانية كانت كفيلة بتغيير حياتنا بطريقة لم تخطر لنا، وزيادة خساراتنا وأوجاعنا إلى حد لا يُحتمل، أفكر في أشكال أجسادنا كم هي ثقيلة ، تحمل صدمات وتخزّن خوفاً، وتكبت انفعالات سلبية، وليالينا ممتلئة بنوبات الهلع والقلق، لقد غدت أجسادنا بالشكل والألم والمعاناة نفسها، لا فرق بين جسد سوري في الشمال وآخر في الجنوب، أو  كما يقول الكاتب الألماني إيكهارت تول: “إن البعض من الدول التي كثرت فيها أعمال العنف الجمعيّ والمعاناة والظلم والقهر والكوارث والحروب، قد امتلكت جسم ألم جمعيّ أثقل من جسم الألم في دول أخرى لم تتعرض لأحداث مشابهة، فتستطيع أن تشعر بثقل الألم عند سكان هذه البلاد”.

نعم، أجسادنا تشبه أرضنا الحزينة واليائسة، وتحتاج الى الكثير من الإنعاش لتواصل الحياة اليومية الروتينية. نحتاج الى هدنة

طويلة مع الألم، والى أبجدية مختلفة للتعبير عن أنفسنا، نحتاج الى أجساد تنتصر لنا من ليالي الهزيمة تحت الأنقاض وفي العراء وفي ليالي البرد القاسية، لتنفك عقدة الألم هذه التي تربطنا بها، لتنفك الى الأبد، ربما نصبح بخير في يوم ما.

"درج": حسين الوادعي - كاتب وحقوقي يمني

تجاهل الخطاب الديني صور المساجد المدمّرة والمآذن المنهارة، لأنها لا تتناسب مع دعوى تذكير العباد بدينهم وربّهم. فكيف يذكرهم الله بنفسه ويهدم في الوقت نفسه المساجد ودور العبادة، التي سيعبدونه فيها؟

لا تخلو المآسي البشرية من المصطادين في الماء العكر.

ففي عز مأساة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، موقعاً آلاف القتلى وملايين المتضررين، فضّلت بعض الأصوات حرف الاهتمام عن المأساة الإنسانية والحديث عن أن الزلزال غضب من الله بسبب معاصي الناس.

ولأن الزلزال ضرب دولة يعتبرها كثر من حملة الخطاب الديني، أرض الخلافة الموعودة، فقد عدلوا صحيفة الاتهام قليلاً ليصبح الزلزال رسالة من الله ليذكرنا بعظمته وقوته، بدلاً من الاتهام التقليدي بكونه عقاباً على المعاصي!

وتجاهل الخطاب الديني صور المساجد المدمّرة والمآذن المنهارة، لأنها لا تتناسب مع دعوى تذكير العباد بدينهم وربّهم. فكيف يذكرهم الله بنفسه ويهدم في الوقت نفسه المساجد ودور العبادة، التي سيعبدونه فيها؟

لكن على رغم هذه التعديلات المسيّسة، لم يخرج خطاب استثمار الكوارث والمآسي لترويج خطاب التوبة عن فكرته الرئيسة: تحقير الإنسان وتحويله الى عاص وغافل ينال ما يستحقه من فجائع.

يبدو غامضاً السبب الذي يدفع بعض المنتمين الى النوع الإنساني، إلى نسيان معاناة الضحية وتصويرها في موقف العاصي والمذنب الذي يعاقبه أو يحوّله الى مجرد عبرة لتذكير الناس بجبروته وقوته وتفوّقه عليهم.

المناطق السورية التي ضربها الزلزال، هي مناطق تجمع آلاف الأسر السورية النازحة والهاربة من جحيم الحرب الأهلية، والتي تعيش ظروفاً صعبة جداً من الهجرة والفقر والشتات. كما أن المنطقة التركية المنكوبة بفعل الزلزال، هي إحدى المناطق الفقيرة التي هرب إليها الأتراك للعيش فيها بعدما عجزوا عن العيش في المناطق الأكثر ازدحاماً وغلاء، وهنا يبدو السؤال المنطقي: لماذا يختار الله واحدة من أفقر المناطق وأكثرها ازدحاماً بالفقراء واللاجئين والمتضررين لكي يعاقبهم أو لكي يبرز قدرته؟

يبدو النقاش العقلاني لمثل هذا الخطاب عبثياً.

فالحجة التي يستند إليها الناطقون باسم الغضب الإلهي، يمكن دحضها بحجج بسيطة. لكن قوتها تكمن في أنها تتحدى بوقاحتها وسذاجتها، أبسط قواعد العقل. وليس هذا أسوأ. يبقى الأسوأ تضحيتها بأبسط مبادئ التعاطف الإنساني بذلك التعصب الهمجي الفوقية التي لا تعطي أي اعتبار أو قيمة للإنسان، وترى تناقضاً بين احترام الإنسان وتنزيه الإله.

تقتل الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير… الفقراء والأغنياء. إلا أنها ولأسباب عديدة، تقتل من الفقراء أكثر بكثير مما تقتل من الأغنياء. وتعصف بحياة الفقراء أكثر مما تعصف بحياة الأغنياء. وهذا يعود الى أسباب كثيرة.

‏فعندما يقع الزلزال في مدينة ما، فإن عدد القتلى يكون أكبر في المناطق لأنها الأكثر ازدحاماً بالسكان، كما أن نوعية البناء المتدنية وعدم تجهيز المباني بمعدات السلامة يؤديان إلى وفيات أكثر، بخاصة أن ضحايا الزلازل في غالبيتهم، يموتون بسبب انهيار المنازل أو المواد المتطايرة، فيما يكون الضحايا في المناطق الغنية أقل، لأن الكثافة السكانية أقل والبنايات أكثر قدرة على التحمّل.

ومن ينجو من الكارثة الطبيعية، ستختلف قدرته على التعافي بناء على وضعه الاجتماعي والمادي. فالفقير الذي يفقد بيته، سيظل مشرداً طوال حياته. والفقير الذي يفقد عمله، سيعاني لسنوات من الفقر والجوع والمرض. ومع انتشار الأمراض والأوبئة بعد الكارثة، سيموت الكثير منهم من تداعيات الكارثة وانتشار الأمراض الجسدية والنفسية.

هذه العوامل تجعل الكوارث الطبيعية الوسيلة المثلى لعقاب الفقراء وتدمير حياتهم إلى الأبد.

فأي عقاب إلهي يخطئ حتى في اختيار ضحاياه؟

تعبّر هذه الأقوال أفضل تعبير عن بؤس الخطاب الديني، الذي وجد نفسه معزولاً عن غالبية جوانب الحياة الإيجابية والمتقدمة، بعد أن تطورت معظم المجتمعات وصارت أكثر سلماً وأماناً وحرية، وأقل تعرضاً للأمراض والحروب. وهو وضع مثالي، وبالتالي لا يترك الخطاب الديني فرصة للتذكير بنفسه إلا من طريق الحروب والكوارث ومآسي الفشل الإنساني.

تضرب الزلازل الأرض منذ أكثر من 3 مليارات سنة، أي قبل أن تكون أشكال الحياة المعقدة حتى. وتضرب المنطقة الجغرافية نفسها المسماة بحزام الزلازل من دون غيرها، وغالبيتها تقع فيها دول، وتتحمل خمس دول العبء الأكبر من الزلازل ونتائجها الكارثية على البشر والممتلكات والبيئة. حقائق بسيطة لا تترك لأصحاب خطاب العقاب الإلهي مخرجاً غير تصوير الإله في صورة الإله العشوائي المزاجي الغاضب، الذي يضرب حيثما يشاء ووقتما يشاء من دون حكمة.

وهذه الصورة ليست صورة الإله الرحيم الذي يعبده الناس لرحمته، بل هي صورة “الإله العربي” الذي حلّله وفكّكه عبدالله القصيمي في كتابه “الكون يحاكم الإله”. تخيل العرب إلهاً له صفاتهم الأمية البدوية نفسها، فصوّروه منتقماً، ماكراً، غيوراً، متقلباً، غاضباً، متعصباً، نرجسياً، ومغرماً بمديح الناس وعبوديتهم له. فهل من المعقول، والكلام للقصيمي أيضاً، مطالبة الإنسان بأن يكون أكثر كمالاً من الخالق وأعدل وأحكم منه؟ ولماذا يصبح الإنسان ملعوناً لو قتل بريئاً أو امرأة أو طفلاً، بينما الإله يفعل ذلك كله من دون محاكمة؟

‏إذا ذهبنا مع المنطق الذي يلغي أي فعالية بشرية، ويقول إن كل شيء هو فعل مخطط من الله لعقاب البشر، بما في ذلك الحروب والكوارث والأوبئة، أليس أي ذنب يرتكبه الإنسان أو خطأ ترتكبه الطبيعية هو في حقيقته إدانة للصانع وصناعته؟

‏أليس أي عيب أو مرض يصيب المخلوق هو في حد ذاته اتهاماً للخالق باختلاق هذا العيب؟

‏هذه التساؤلات الفلسفية تبيّن خطر خطاب العقاب الإلهي، لأنه يضع الناس في مواجهة مباشرة صعبة بين إنسانيتهم وإيمانهم. وينزع عن الضحايا إنسانيتهم ومظلوميتهم ليحوّلهم الى مذنبين أو الى مجرد “عبرة” لا قيمة لها في حدّ ذاتها، لأن قيمتها تصبح فقط في الرسالة الإلهية القاسية الموجّهة الى الآخرين الذين لم يصلهم العقاب الإلهي بعد.

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا