بين مصرف الإسكان ووزارة العمل والأمن العام... جلجلة مواطنة
إعرف حقوقك وواجباتك الوطنية. إعرف حقوقك القانونية. إعرف حقوقك الوظيفية... إعرف واعرف لكن، ما نفع أن نعرف؟ في بلادنا، العارف يتألم أكثر ويقلق أكثر ويحزن أكثر. ولكم أن تتخيلوا حال مواطنة تعرف واجباتها وتعرف أيضا حقوقها في «اللادولة اللبنانية». تريدون إثباتاً على ذلك؟ جولة قياسية، في يومٍ واحد، في ثلاث مؤسسات مشلولة أو شبه مشلولة لإتمام معاملة قبل أن تقلب عقارب الساعة من يوم 27 الى يوم 28 شباط وتصبح غير متقيدة بالأصول القانونية وخاضعة الى رسوم التأخير.
يُحدثوننا عن الذكاء الإصطناعي وعن مدن باتت ذكية وعن عقود ذكية. كدنا نصدق. إحداهنّ اضطرت - ونشدد على كلمة إضطرت - الى الإستعانة بعاملة أجنبية. أتت بواحدة موجودة في لبنان وتنتهي مفاعيل أوراقها في 27 شباط. ونقل الكفالة من ربّ عمل أتى بها من بلادها الى ربّ عمل جديد يريد ان يتعاون معها تحتاج الى المرور بالأمن العام اللبناني. قصدَته قبل أكثر من شهر، فأمضت ثلاث ساعات، تصعد وتنزل، من طبقة الى اخرى، الى حين أخذ موظف الأمن العام الأوراق وقال لها: تأخذينها بعد شهر. يعني في 17 شباط. قالت «خير». يبقى عشرة أيام تنجز خلالها المعاملات اللاحقة. معاملتها تتطلب ورقة دفع كفالة في مصرف الإسكان، المنضوي ضمن جمعية المصارف التي نفذت إضراباّ في السابع من شباط. إستلمت معاملة نقل الكفيل من الأمن العام وراحت تنتظر - على أحرّ من الجمر- عودة المصارف عن إضرابها.
متاهة
ثلاثة أسابيع تنتظر. ويوم 27 شباط إقترب. هي مواطنة صالحة تحفظ حقوق المواطنية وتعرف واجباتها تماماً. هي مواطنة لبنانية مسكينة - في المفهوم اللبناني الرائج - حيث لا حقوق والواجبات معطلة. اتصلتْ بوزارة العمل فقيل لها: مطلوب تضمين الأوراق المعاملة المصرفية. اتصلت بمدير عام مصرف الإسكان أنطوان حبيب فقال لها: المصرف مقفل ولا يقوم بأي عملية. قصدت مصرف الإسكان فردّت خائبة. وفجأة قررت المصارف في لبنان فتح أبوابها موقتا بدءاً من 27 شباط، لمدة أسبوع واحد. وهذا معناه أن عليها العبور بين ثلاث مؤسسات رسمية في أقل من ثماني ساعات. إنها المهمة المستحيلة.
في 27 شباط، يوم الإثنين، إتكلت على رب الأكوان، وانطلقت مع بزوغ الفجر. المحطة الأولى في مصرف الإسكان. مواطنون كثيرون سبقوها. السلالم ممتلئة بالبشر. الوجوه سوداء والقامات منهكة. الناس يحملون اوجاعهم ويأتون لإتمام معاملاتهم والكثير منهم أتوا بناء على اتصال من المصرف، ينبئهم فيه أن تغييرات ستجرى في العقود. أبو ريتا كثير الكلام، لا يصمت، ويخبر الواقفين عن إنجازات ريتا التي أصبحت اليوم في كندا، في منصب كبير، والمصرف زاد عليه شهرياً مبلغ تسعة دولارات فريش. هو اتى ليعرف: لماذا؟ ومثله كثر. واحداً واحداً يدخلون. المواطنون أصبحوا وكأنهم محشورون في مرطبان ضغط عملاق. جماعات جماعات على السلالم المؤدية الى الطبقة السادسة حيث المصرف. أحدهم سأل عن تدابير كورونا فابتسم الواقفون وتثاءبوا وتململوا في أماكنهم، كما الطير الذي يتلوى من الألم. وصل دورها. صلّت كثيراً حتى وصل دورها. دخلت على عجل. أخذ موظف شاب المعلومات عنها ودعاها الى الإنتظار... الطويل. لم يقل لها مدة الإنتظار لكنه أجابها حين سألت: على الله.
الله موجود. هي تعلم ذلك لكنها موقنة أيضا أن المرء عليه أن يساعد نفسه حتى يساعده الله. شعرت بالحنق الشديد مع مرور الوقت سريعاً. سألت مراراً عن معاملتها. إقتحمت الغرف المقفلة فدعوها الى الخروج وانتظار دورها. أخبرتهم أن هناك من أتوا بعدها وخرجوا قبلها. فكرروا عليها وجوب الخروج ونقطة على السطر. إنها «هيبة» الدولة في مصرف الإسكان. أصواتٌ تعلو من الخارج. السلالم ما عادت تتسع للقادمين. والجالسون في الداخل يدردشون عن كل شيء، وكل شيء فيه ظلم. إحداهن كادت تغيب عن الوعي. طلبت كرسياً فنهاها موظف. الناس يسألون عن العقود الجديدة مع مصرف الإسكان وواحدة من الموظفات تشرح لهم: إبتداءً من الشهر العاشر ستدفعون بوليصة التأمين السنوية بالدولار وكلفة الملف السنوية أصبحت بالدولار الجمركي و... و... العقود تتغير. كل شيء في بلادنا يتغير. إنها الحادية عشرة ظهراً. الوقت يمر بطيئاً على المنتظرين وسريعاً سريعاً على من يريدون أن تجمد الساعة قبل أن تقفل وزارة العمل والأمن العام الأبواب.
عادت الأصوات تصدح من الخارج. عدد الوافدين بات أكثر من أعداد من يثورون على الطرق في هذه الأيام. كل الهموم باتت تقف عند حدود إنهاء معاملة في مصرف الإسكان. إقتربت من الموظف الشاب، الذي يبدو الأكثر ليونة، وذكرته بأنها تأخرت كثيراً وعليها أن تنجز بعد المزيد من معاملات اليوم. إعتذر منها وسأل عن معاملتها. مهذباً يبدو لكن المهذب بين جهلة سمجين يضيع. دقائق إضافية وناداها. كرر أخذ المعلومات، وأخذ مليوني ليرة لبنانية كلفة الكفالة، ودعاها مجدداً الى الإنتظار فالتزمت. نظرت الى ساعتها وانتظرت. خرج موظف من غرفة جانبية وقال للمنتظرين: سنأخذ اليوم تسعة طلبات بعد. هي تسعة من تسعين وأكثر. فدار هرج ومرج وسُمعت أصوات من الداخل، من موظف يظن نفسه هارون الرشيد يقول: سأقفل كل الابواب إذا سمعت صوتاً. سكت الغاضبون فالأستاذ أمر. عشر دقائق وناداها موظف باسمها: أجابته بغضب: نعم. قال لها: بونجور... هذه ورقتك. أمسكت بها، كمن قبض على مليون دولار، وركضت مغادرة. بصعوبة وجدت منفذاً بين الجموع وغادرت. وسمعت كثيرون يقولون لها: مبروك مبروك. فأجابتهم: عقبالكم.
هيا إلى «العمل»
إنتهت من جلجلة مصرف الإسكان. هي الساعة الواحدة و35 دقيقة. هرولت باتجاه مركبتها وبها أسرعت نحو مكتب وزارة العمل في جونيه. لا زحمة سير على الطريق. وهذا لصالحها. صلّت الأبانا والسلام. نسيت أخبار الدولار والزلازل والفساد. هنا وزارة العمل. هي توجهت الى هناك بعدما نصحوها بأن هذا المكتب الذي افتتحه ذات يوم الوزير سجعان قزي هو الأكثر «ذكاء»- بمفهوم الحكومات الذكية - وإن كان لا يزال يعتمد على الورقة والقلم. تأكدت من كافة أوراقها وهرولت صعوداً نحو الطبقة الأولى، وعلى السلالم وجدت شحاذين يطلبون لها الصحة والأمان لقاء حفنة من الألوف. مكتبان واحد الى اليمين وآخر الى اليسار. دخلت الى المكتب على اليمين فرتب أحد الموظفين مجدداً أوراقها ودعاها الى التوجه الى المكتب الآخر. موظفات يلبّين حاجات المواطنين في وقتٍ مؤسسات رسمية كثيرة في حال إضراب مُستدام . وأول سؤال وجهته إليها إحداهن: لماذا تأخرتِ كثيرا؟ وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال لتفش كل ما في قلبها من خدمات دولة مهترئة. اشفقت عليها وقالت لها: إدفعي المتوجب في أحد المكاتب المجاورة وعودي الى هنا. نزلت الى الشارع. OMT هنا وWhish هنا وغيرهما... دفعت مليون و10 آلاف ليرة وعادت مسرعة. المعاملة تحتاج الى وقتٍ لتنجز لكن في المكتب من لا يزال لديهم قلوب. أنجزوها بسرعة فائقة وقالوا لها: هرولي نحو الأمن العام. هي من المرات النادرة التي تخرج فيها من مؤسسة عامة فرِحة مطمئنة.
ختامها ...شكراً
الباركينغ المجاور أخذ خمسين ألف ليرة. دفعت وشكرت. سيارة معطلة عند مفرق حارة صخر والسير وراءها أرتال والساعة تقارب الواحدة ظهراً. بدأ العدّ العكسي لانتهاء مهلة إستكمال أوراقها. أخذت طريقاً ثانياً وثالثً ورابعاً حتى وصلت الى الأوتوستراد الساحلي. واستكملت رحلتها. الطريق «فاتحة». في الجديدة، في مقر الأمن العام، أخذت نفساً عميقاً. لا زحمة. دخلت وأنجزت معاملتها ، صعدت الى مكتب المدير، وقعها لها وقال لها: شكراً. قالت له مستغربة: نعم؟ ماذا قلت؟ لم أسمع؟ إبتسم وكرّر: شكراً. شكرته بدورها كثيراً كثيراً مرددة: ثمة أوادم تصادفهم في كل مكان. توجهت نحو الصندوق. المكتب مقفل. سألت جمهرة الناس أمامه فقالوا لها: ذهب وسيعود. عشر دقائق، خمس عشرة، عشرون وعاد. قبض المبلغ المستحق وقال لها: تنتهي معاملتك بعد شهر.
أخذت نفساً عميقاً جداً. وأخيراً، أنجزت «واجباتها» في دولة كبرت وهي تسمع بعض من فيها يتحدثون عن الحقوق والواجبات. هي حظها كان جيداً لكن ماذا عن حظوظ الآخرين؟ ماذا عن حقوق الناس في بلادنا؟ ماذا عن كل الكلام الذي سمعته من الدكتور أنطوان مسره عن المواطنية الصالحة؟ نحن شعب إعتاد على التأقلم مع الوجع وهذا خطأ كبير. هذا خطأنا الكبير. نحن شعب ما زلنا نصرّ على إتمام واجباتنا غير عابئين بالحقوق التي يفترض أن نحصل عليها. نحن شعب نغني «الميّ مقطوعة يا أفندي» وبدل أن ننتفض نتصل بأقرب صاحب صهريج لنحصل على حاجتنا الأساسية. نحن شعب مدجن في دولة متحللة. اللبنانيون، أو بعض اللبنانيين في مناطق معينة، ما زالوا حتى اللحظة يدفعون ما عليهم ويخالون أن الدنيا انتهت وأقفلت في وجوههم إذا تلكأوا بينما هناك من يعيش على ظهور الآخرين. هي أنجزت ما عليها، قامت بواجباتها، وشعرت بسلام داخلي للحظات. حالفها الحظ بذلك. لكن، ماذا عن حقوقها؟ وماذا عن ذنوب الدولة المهترئة التي تنكفئ عن القيام بواجباتها وإذا لم تحصل على حقوقها غرّمت البشر؟ أسئلة برسم الشعب لا الدولة لأننا في غابة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|