"في 16 منطقة بجنوب لبنان"... إسرائيل تصادر أكثر من 10 ألاف قطعة سلاح لحزب الله (فيديو وصور)
ميسي أو رونالدو… المبالغة في تقدير الموهبة
حصد الأرجنتيني ليونيل ميسي جائزة الاتحاد الدولي (الفيفا) لأفضل لاعب كرة قدم في العالم 2022. وتفوق ميسي على الفرنسي كيليان مبابي، زميله في "باريس سان جيرمان"، والفرنسي الآخر كريم بنزيمة لاعب "ريال مدريد" الإسباني والذي لم يشارك مع منتخب بلاده في نهائيات كأس العالم الماضية بسبب الإصابة. يشار إلى أن ميسي فاز بجائزة الفيفا "ذا بيست" 2022، للمرة الثانية في تاريخه، ليعادل رقم الثنائي كريستيانو رونالدو وروبرت ليفاندوفسكي. هنا مقاربة عن ميسي وكريستيانو.
لا أعدّ نفسي في عداد الخبراء في لعبة كرة القدم. فمع أني كنتُ، كمعظم شباب الشرق الأوسط، مُتابعاً مخلصاً للعبة، ومُمارِساً سيئاً لها في شوارع الحارة، لكن بعد هجرتي الأميركية، حدثتْ قطيعة جغرافية وزمانية وثقافية مع اللعبة لم يكن من السهل ردمها والقفز فوقها. مع ذلك، كان الشاب المهووس بالكرة يستيقظ داخلي كل أربع سنوات مع كل مونديال. وخلال المونديال الأخير في قطر، انفجر منسوب الاهتمام أعلى من العادة. ربّما للأمر علاقة برواسب عاطفية قومية لم أتحرّر منها تماماً بعد.قسم كبير من الصحافة والمتابعين والمحلّلين، تمنّى أو توقّع أن يُتوّج مونديال قطر بمواجهة قمة بين لاعبَيْن عالميين من أفضل ما مرّ على كرة القدم؛ البرتغالي كريستيانو رونالدو، والأرجنتيني ليو ميسي. حتى الذكاء الاصطناعي (حسب صحيفة "ماركا" الإسبانية) توقّع قبل المونديال، بعد تحليل بيانات كثيرة، بأن المباراة النهائية ستكون بين الأرجنتين والبرتغال (وهو ما لم يحصل). لكن الإشارة هنا لتوضيح أن ثنائية رونالدو-ميسي ليست مجرّد تريند بشري طارئ. بل إن هذه الثنائية، أو المفاضلة المزمنة، كانت موجودة منذ أكثر من عقد في المشهد التحليلي والتأريخي والتقريري للعبة. ثمة مئات الفيديوهات لمقابلات مع لاعبين دوليين ومدربين ومحلّلين وعدد لا يُحصى من الكتابات التي ظلّت تلوك السؤال نفسه على مدى سنوات طويلة: من الأفضل، ميسي أم رونالدو؟ حتى باتت هذه المقارنة من الأدبيات المكرّسة للعبة كرة القدم.
اُبتليتُ بعد المونديال بالهوس العالمي في جدال الأسماء هذا، وأصابتْني حمّى مشاهدة (متأخرة) لكثير من مباريات اللاعبَيْن السابقة؛ أهدافهما؛ تكتيكاتهما.
والحقيقة، أن جدالاً تفاضلياً كهذا للاعبَيْن كبيرين مهمّين ممتعين، بغض النظر عن التفاصيل، فيه كمية لا بأس بها من الافتعال؛ صفة ملازمة عادة لأهواء التريند ومتطلباته الاستهلاكية. لكن ماذا بخصوص التفاصيل؟ أليست مهمّة هنا؟ ربما المقارنة والمفاضلة بين الموهبتَين الكرويتين فيها ما يستحق أن يُقال، وإذا كان قد قيل سابقاً، فالتوقف عنده ثانية يفتح نقاشاً أوسع عن ماهية الموهبة البشرية.
على مدى عقد من الزمن، كان الاستنتاج شبه المتفق عليه بأن مهارات ميسي الكروية مهارات أكثر طبيعية، مهارات تشبه الهبة السماوية. موهبة فطرية صنعتْها الطبيعة، أو وهبها الله، ثم شذّبها ميسي بالتأكيد بالتدريب والتثقيف لتتحوّل مع الزمن إلى موهبة مكتملة كبيرة. جوهرة طبيعية احتاجت فقط إلى نفض الغبار عنها حتى تظهر في كامل تألّقها. مقابل الفطرة، كان شبه الإجماع أيضاً أن موهبة رونالدو موهبة تميل إلى أن تكون مُصنَّعة، مُكتَسبة بالجهد والعمل والتدريب الطويل المستمر، يقف خلفها طموح هائل أقرب إلى الهوس والجنون (طموح كانت تغذّيه المنافسة مع ميسي). مع الزمن، تحوّل رونالدو أيضاً إلى موهبة كبيرة مكتملة، لكن كي نُكمل دائرة المقارنات، تحوّل إلى جوهرة اصطناعية احتاجتْ إلى الكثير من الحفر الذي لا يرحم، حتى تلمع وتظهر في كامل تألّقها. يُلخّص اللاعب الفرنسي المعتزل، تييري هنري، الكبير والموهوب بدوره، الاجتهاد الذي قيل بخصوص ثنائية ميسي-رونالدو (الفطرة في مواجهة الصنعة): يعبّر هنري عن إعجابه الكبير باللاعبَين، وفي الوقت نفسه يشرح بخبرة اللاعب المجرّب الفرق بين السحر الطبيعي لدى ميسي والسحر المصنَّع (وليس المصطَنع) لدى رونالدو.
الطريقان نحو النجاح كانا مختلفَين، لكنهما كانا أيضاً متوازيَين صوب نتيجة واحدة. لذلك قد يبدو جدال المفاضلة من أصله عقيماً، لكن هل هو كذلك فعلاً؟ بمعنى آخر، ألا يستحق هذا السؤال بعض التأمل: ما الأهم في صنع الموهبة البشرية، الفطرة الإلهية أم الصنعة البشرية؟ المادة الخام أم الإزميل؟
أذكر أني قرأتُ كتاباً منذ فترة طويلة جداً، للكاتب الأميركي جيوفري كولفين، بعنوان: "المبالغة في تقدير دور الموهبة: ما يميّز حقاً أصحاب الأداء العالمي عن الآخرين"، نُشر العام 2008. الأطروحة الأساسية في الكتاب أنّ الطريق الذي يوصل إلى صنع موهبة استثنائية في أي مجال لا يمرّ عبر القدرات الفطرية التي تولد مع الإنسان، بل من طريق التدريب المستمّر والمران الموجَّه المتواتر والخبرة المتراكمة. كولفين يدافع عن فكرة أن الممارسة اليومية الموجَّهة المدروسة، تلك التي تسعى إلى تجاوز الذات وترقيع نقاط الضعف والوصول إلى أداء كامل متكامل، هي التي تصنع المواهب العالمية الكبيرة. لا يقدّم كولفين مجرّد فرضية شخصية، بل يدعمها بأمثلة حيّة مُدعَّمة بالأرقام والسيَر الذاتية. يعرض لنا الكتاب التدريب القاسي الذي مرّ به تايغر وودز منذ صغره (من قبل والده في البداية) والساعات الطويلة التي قضاها في التدريب حتى أصبح من أعظم لاعبي الغولف في العالم. كيف صنعتْ أوقات طويلة صعبة من التدريب المتواصل مواهب فرقة البيتلز الموسيقية. بيل غيتس، بين فرانكلين، موتسارت، أساتذة الشطرنج الكبار. تلك المواهب، بحسب دراسات كولفين التحليلية، صنعها التدريب، مع المثابرة والحفر في أرض التمرين المتواصل الذكي. الكتاب مثير. لكنه، بقدر ما يوحي بنبرة حيادية قريبة من قدرة الإقناع، ثمة ما ينقص الكتاب وأمثلته. كأن كولفين قدّم عالماً مُجتزَأً، واستبعد مَن وما لا يدعم ويؤكد فرضيته. وواقع الحال، أن جدال ما يصنع الموهبة، يدخل في سياق أعرض وأشمل، ذاك الذي يُسَمَّى في أوساط الدراسات الاجتماعية الخاصة بالسلوك والهوية البشريين بمفهوم "الطبيعة مقابل التنشئة"؛ أي السياق الذي يحاول تحديد الكفّة الراجحة في ما يشكل هويّة الإنسان وسلوكه في النهاية، الفطرة أم البيئة. الغلبة في دراسات العقد الأخير ترجّح الفطرة. لكن هذا نقاش طويل آخر.
بغضّ النظر عن النسب والحصص، من المؤكد أنّ أي أداء استثنائي، أية موهبة، تحتاج إلى قاعدة أساسية واسعة من الفطرة، تُبنى فوقها عمارة الموهبة بكثير من الصقل والعمل والمران. سيبقى الأمر هكذا. ميسي ورونالدو يقدّمان نموذجين مفارقين لهذه الكيمياء. كل من لعب مع ميسي وتدرّب معه، أدهشتْهُ قدرته السحرية على التلاعب بالكرة والسيطرة عليها، قدرته التي تتظاهر بالسهولة على تخيّل الملعب وأمكنة اللاعبين وتوقع تحركاتهم. كأن كل شيء يحصل من دون جهد، بتلقائية أشبه بالسحر.
وكل من عرف رونالد من قرب، ولعب وتدرّب معه، شهد وأُعجب بمثابرته والتزامه والجهد اليومي الجبّار الذي بذله حتى صنع أسطورته. يتدرّب رونالدو يومياً ببرنامج طويل دقيق لا يحيد عنه. يتدرّب تحت الماء، يضع أوزاناً على كاحليه، ينمّي كل عضلة يمكن أن تساعده على القفز والركض أعلى وأسرع. يوظف طاقماً رياضياً وآخر متخصّصاً لتخطيط نومه وأكله حتى يصل إلى أكمل جسد وأعظم أداء. ظلّ يفعل ذلك لسنوات طويلة بثبات ألهمَ العديد من الرياضيين، حتى صنع سحره الخاص رغماً عن مُشكّكين كثر.
ميسي ورونالدو مثالان حيّان لكيفية صنع الموهبة. مثالان مختلفان مفارقان، لكنهما أيضاً مُكمّلان لحكاية الاستثناء الإنساني. عاشا في حقبة كروية واحدة، وأمتَعا عشاق الكرة بسحرهما الخاص المتفرّد. ربّما في هذه الثنائية بالذات، يمكن غض النظر والقبول بالمقولة الميكافيلية أن "الغاية تبرّر الوسيلة"، ما دام السحر في النهاية واحد.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|