من اللافت إصرار ميقاتي وبري على تمرير هذا الإجراء عبر قرار استثنائي صادر عن مجلس الوزراء، أو عبر إدراجه في قانون الموازنة وفق أرقام وهمية، طالما أن كل ما يحتاج إليه هو قرار من وزير المال يوسف الخليل، أو من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فالبند (د) من الفقرة الرابعة من المادة 35 من قانون الجمارك تنصّ على الآتي: «إذا كانت قيمة البضائع الواردة في الفاتورة محرّرة بعملة أجنبية، فيتم تحويلها إلى عملة لبنانية على أساس معدل التحويل المعمول به بتاريخ تسجيل البيان التفصيلي والمسند إلى معدّلات التحويل التي يحدّدها، شهرياً أو دورياً، مصرف لبنان». لذا، كل ما على الخليل فعله هو إصدار قرار باعتماد معدلات «صيرفة» التي يصدرها مصرف لبنان، أو الطلب من مصرف لبنان أن يبلغه بشكل واضح ما هو المعدل الذي يتوجب اعتماده لسعر الدولار الفعلي.
هكذا بات الأمر واضحاً. فميقاتي وبرّي لا يريدان أن تلتصق بهما حصراً تهمة زيادة هذه الضريبة التي ستدفع ثمنها الطبقات المسحوقة. إذ إن هذه السلطة عاجزة عن تحمّل تبعات ما تقوم به، وبدلاً من أن يكون الدولار الجمركي وسيلة ضريبية ضمن سياسات اجتماعية واقتصادية، يجري تحويله، كما كل شيء آخر، إلى وسيلة محاسبية لزيادة الدفق المالي إلى الخزينة.
وبدلاً من أن يكون الدولار الجمركي أداة لكبح فرص التجّار في التربح من تقلبات أسعار الصرف، يصبح الدولار الجمركي وسيلة ضبابية الأهداف طالما أنه لا يعرف عن إدارة الدولة سوى النهب. ففي الثمانينيات، جرى تصحيح متدرّج للدولار الجمركي، بعكس التصحيح المتأخّر المطروح حالياً والذي سيمنح المحتكرين فرصة للتربح الإضافي بعدما سبق أن استفادوا من فروقات سعر الصرف وقيمة الضريبة المتوجبة عليهم، على مدى السنوات الثلاث الماضية. فالتجار عمدوا إلى رفع أسعار السلع على سعر الصرف الفعلي، بينما ما زالوا يدفعون الرسوم والضرائب على سعر صرف يوازي 1500 ليرة لبنانية. هنا يقوم الخليل بمناورة تضليلية تقوم على أن التجّار لن يرفعوا الأسعار عند زيادة الدولار الجمركي لأنهم سبق أن رفعوها. ثقة الخليل بالتجّار مرتفعة، كثقته بالمصارف يوم كان مديراً للعمليات المالية في مصرف لبنان. فمن دون أدنى شكّ، لن يتردّد أي تاجر في تحميل الزيادة الناتجة من الدولار الجمركي على سعر السلعة. وهو أمر متاح بلا مراقبة تقوم بها الدولة. صحيح أن دراسة الخليل تنكر وجود تأثير مباشر على المستهلك باعتبار أن 65% من السلع الواردة معفاة من الرسوم الجمركية ونحو 40% منها معفى من رسم الـ 3%، ما يبقي أثر تطبيق الدولار الجمركي «منخفضاً» على حدّ تعبير الخليل، إلا أن الأمر ليس عملية محاسبية بحتة: فمن أين ستأتي الإيرادات إلى الخزينة لترتفع من 20 ألف مليار ليرة الى ما يقارب 39 ألف مليار ليرة؟ هل لدى الخليل جواب في ظل الاحتكارات التجارية؟ قطعاً سيكون الأمر على حساب المقيمين في لبنان وإفقارهم أكثر بالضرائب بعد ضريبة التضخم الهائلة التي دفعوها بسبب الانهيار. لكن يطيب للخليل تسمية عملية الإفقار هذه بـ«التصحيح المالي» الذي يأتي بعد «تراجع الإنفاق الأولي وتقلّص الإنفاق على الرواتب والأجور الى 5.5% من الناتج المحلي وحصر الإنفاق على خدمة الدين العام بـ 1.3% من الناتج المحلي، إضافة إلى انخفاض مجمل الإيرادات إلى 10% من الناتج المحلي نتيجة الخسائر التي تتكبدها الخزينة على إثر تحصيلها للإيرادات على سعر صرف أصبح بعيداً عن أسعار الصرف المعتمدة في التداول».
أحد أهم الأسباب الموجبة لرفع الدولار الجمركي، بحسب الخليل، هو أن زيادة الدولار الجمركي تحمي وتحفّز الصناعة الوطنية. بمعنى أوضح، هو يقول إن زيادة الدولار الجمركي هي زيادة ضريبية على الاستهلاك المستورد ما سيحفّز الصناعة الوطنية على الإنتاج أكثر وسيمنحها قدرة تنافسية أعلى في السوق المحلية. ويشير أيضاً إلى أن هذا الأمر يسهم في تقليص عجز الميزان التجاري ويخفف الطلب على الدولار، وهو ما سينعكس تحسناً في ميزان المدفوعات. إذاً، يأمل الخليل أن تكون هذه الضريبة قاسية جداً على المجتمع حتى يتوقف عن الاستهلاك، ويأمل أيضاً، من دون أي سياسات اقتصادية تخصص أفضلية وتحفيزات تمويل وإعفاءات للصناعة، أن يكون قراره مفيداً للإنتاج الوطني. وهو يدرك تماماً، من موقعه الحالي في وزارة المال، ومن موقعه السابق في مصرف لبنان، ومن موقع اجتماعي أيضاً، أن حماية الصناعة هي أمر اندثر يوم قرّرت قوى السلطة بناء نموذج لاستقطاب الأموال من الخارج بكلفة مرتفعة تفوق أي مردود من الإنتاج الصناعي، وقرّرت في هذا السياق تحويل لبنان إلى «جنة ضريبية» من أجل هدف «مقدس» هو الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، فاستبدلت ضريبة القيمة المضافة وقلصت الرسوم الجمركية إلى الحدّ الأدنى، وألغت القسم الأكبر منها. بكلام أوضح، هي قرّرت أن تفرض ضريبة على المستهلك للتحكّم بمستويات الاستهلاك في إطار خطط السياسات النقدية التي مارسها مصرف لبنان والرامية إلى استمرارية ما سمّاه البنك الدولي «بونزي مالي».
ورغم أن الانهيار عزّز صعوبات الانتقال إلى نموذج إنتاجي تتحفّز فيه الصناعة بسبب عدم وجود تمويل أصلاً (المصارف مفلسة)، يأمل الخليل بأن قمع المستهلكين بالضرائب سيؤدي الغرض الذي يسعى إليه. عملياً، هو ينزع الفاعلية الاقتصادية عن أداة مثل الدولار الجمركي، من أجل استعمالها حصراً لتمويل الخزينة وقمع الاستهلاك بشكل عام. لكن لماذا لا يستخدم ميقاتي والخليل هذه الأداة بشكل هادف في إطار «الكابيتال كونترول»: اي تحديد السلع التي يحتاج لبنان إلى دخولها وإعفاءها من أي ضريبة أو منحها خفوضات على الدولار الجمركي مثلاً، في مقابل تحديد سلع أخرى يرفع عليها الدولار الجمركي أضعاف لكبح استيرادها لأنها تستنزف العملات الأجنبية.
أما الحجّة التي يتم تسويقها أيضاً، وهي أن زيادة أجور القطاع العام ستخلق ضغوطاً تضخمية، ففي مقابلها حجّة تشير إلى أن الدولار الجمركي سيخلق ضغوطاً تضخمية أيضاً لأنه سيؤدي إلى رفع الأسعار وسيدخل كعنصر محفّز ضمن الحلقة المفرغة في ارتفاع سعر الصرف وتضخم الأسعار.
كل هذه القرارات الاعتباطية تهدف إلى إرساء المزيد من الفوضى المالية والضريبية، ويقف وراءها العقل المحاسبي نفسه الذي لم يكد يختتم 30 عاماً من النهب وتجميل المالية العامة بأنامل حاكم مصرف لبنان، ليفتتح مرحلة أخرى من النهب المنظّم لإعادة تمويل إفلاس الخزينة تحت عنوان «الدولار الجمركي» هذه المرة... يبدو أن رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة لم يخرج من وزارة المالية قط.