المجتمع

يوميات شاب لبناني “يموت ببطء”

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

"درج":  يوسف الأمين

أعيش وأبناء جيلي خيبات متتالية، نخشى ألا نستطيع التحمّل أكثر، وأن نستسلم للبؤس ويأكلنا حزننا.

عدت إلى معالجتي النفسيّة بعد انقطاع دام سبعة أشهر. هناك أخبرتني، “أنت تعاني من الاحتراق النفسي Burnout”. قالتها بعد نقاش ظننت أنّه مجرّد “دردشة”. إنّني أعاني من الموت! “الموت الناتج من الأعباء الزائدة”، كما يُطلق عليه باليابانية. 

كل صباح، أتوجّه إلى الجامعة، أتلقّى بعض التوبيخات بسبب تكاسلي أثناء المحاضرات. يقول بعض الأساتذة إنّنا جيل “مدلّع”. أما في المنزل، فمناقشة الأهل لا تخلو من المنافسة حول من عاش المعاناة أكثر: هم أم نحن؟ “ما شفتوا شي من اللي شفناه بالحرب الأهلية”، ترددون ذلك وتتملكني الخيبة من معاناتي “الضيّقة” و”الخفيفة”. 

بعد صراع يومي لتأمين أساسيات يعتبرها كثيرون بدهية، يبدو لي أننا جميعاً في القوقعة ذاتها، ربّما الفارق أنّنا “تحمّسنا” أكثر، وتوقّعنا الكثير، لكنّها صفعات الدولار وتراكم “التروما” أوقعتنا أرضاً. 

يبدو لي أنّني، ومن حولي من أبناء جيلي، نركض خلف الزمن، نكدّس بعض الليرات التي نجنيها، ونصرف جزءاً منها على بعض السهرات، أو نمضي الوقت في العتاب. “مش عم نشوفك” و”متقّل حالك علينا”، هي كلمات ضاغطة نتبادلها كي لا نقع في فخّ الاكتئاب القادم. 

منذ أشهر طويلة، أدركت أنّني أعاني من النسيان الشديد، وأحياناً أقطع وعداً للقيام ببعض المهام في أثناء اندفاعي، لكنّني أنسى أنّني أنسى كثيراً. أبرز ما وصلني من أكثر من ثلاثة أصدقاء مقرّبين، أنّني “لم أعد مهتمّاً بهم”، ولا أسألهم عن يوميّاتهم، ولا أسترجع إحدى “الخبريّات” التي قالوها لي في إحدى السهرات. يضاف إلى ذلك، تحت خانة الـ”Burnout”، أنّني أنبذ نشاطي، ابتعدت من الكتابة، لا بل حاولت تقديم بعض المقترحات، لكنّني قسوت على نفسي في تنفيذها. 

في طريقي إلى الجامعة

أنهض من فراشي قبل خمس دقائق من بدء محاضرتي، غير مبال، لأنّني أتصوّر مسبقاً أنّني في طريقي إلى عالمٍ من الضجيج والصراعات. يشكو لي أحد العاملين في المبنى الذي أقطن فيه، أنّ ابنته لا تتلقّى التعليم اللازم في مدرستها الرسمية: “إذا قادر نزّلي ياها على شي موقع، بنتي مش عم تتعلّم”. لم أجد نفسي قادراً على إيصال صوته، ولا طاقة لي على الكتابة. شعرت بالذنب، وأكملتُ طريقي. 

لسائق الأجرة قصّة ثانية، أبدأ صباحي بما وصَلت إليه صفيحة البنزين وبأنّها “ما بتوفّي معه”. بين اليوم والآخر، يزداد سعر “السرفيس”، وبتّ أدفع على كيلومترين من منزلي الى الجامعة بين 150 و200 ألف ليرة لبنانية، أي ما يقارب الدولارين. أما الدولاران الآخران، فأدفعهما على فنجان القهوة وقنينة الماء، وربّما قطعة البسكويت. تحوّلت علاقتي بالجامعة إلى كمٍّ من الاستلشاء، بعدما كنت مندفعاً فيها، وهو تغيّر لاحظته في سلوك غالبيّة زملائي. 

يحار كثر من أصدقائي بين طريقين: هل يستجيبون لطموحاتهم ويتقاضون راتباً زهيداً، أو يعملون في ما هو خارج اهتماماتهم براتب مقبول؟ تقول لي صديقتي إنّها اختارت البقاء في عملها، الذي تعتقد أنّها “تبني من أجله في المستقبل”. أحتار بين تلك النظريّتين، فنحن كثيراً ما بتنا نطمس أحلامنا، لأنّنا “فئة متطلّبة”، وإن كنّا نطلب السهر. استبدلنا “السهرة” من الملاهي أو المقاهي إلى منزل أحد منّا، أو أن نشتري بعض “النقرشات” ونبقى في السيّارة، من دون تحريك العجلة.

تخطّى الدولار عتبة المئة ألف ليرة لبنانية. الغريب أنّه عندما وصل إلى 10 آلاف ليرة سابقاً، كان غضبنا أكبر، والغريب أكثر أنّه في كل ارتفاع نشعر بأنّها نقطة حسم. على المستوى الشخصي، أفكر أحياناً: “مستحيل نصير نطلع بالسرفيس، معش رح ننزل على الجامعة”، وكلّها عوامل باتت خفيفة أمام الواقع الحقيقي. وصلنا إلى ما يفوق المئة ألف ليرة للدولار الواحدة، وأُصبنا جميعاً بالتبلّد الانفعالي.

أعيش وأبناء جيلي خيبات متتالية، نخشى ألا نستطيع التحمّل أكثر، وأن نستسلم للبؤس ويأكلنا حزننا.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا