اللاجئون السوريون "قنبلة موقوتة": رعونة السلطة اللبنانية وانتهازية الأسد

يجيد المأزومون إحالة أزماتهم وإخفاقاتهم وفشلهم على الآخرين. في حالات الانهيار والتأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يتكاثر لجوء السياسيين إلى الماورائيات للاستقواء بها. وغالباً ما يستقوي الضعيف على الأضعف، أو على الأكثر تأزماً وهشاشة في محاولة متوهمة لاستعادة بعض من قوّة.
ملف متورم
وهذه حكاية لبنانية متوارثة منذ ولادة لبنان الكبير، من أبرز تجلياتها انفجار العلاقة بين اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين سابقاً، والوقوف على مشارف انفجار جديد بين اللبنانيين واللاجئين السوريين، اليوم. لذا، يشكّل ملف اللاجئين السوريين في لبنان قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت. ويمكنها أن تحدث كوارث تطال اللبنانيين والسوريين معاً.
الكم الهائل من الضخ التحريضي يمكنه أن يقود في نهاية المطاف إلى صدام حتمي. فبعض الأدبيات المستعملة اليوم تذكّر بحقبة ما بعد العام 1969 وما حصل مع الفلسطينيين. فكانت انعكاساته انفجار حرب أهلية شاملة.
لا حاجة للتأكيد أن ملف اللجوء السوري يحتاج إلى حلّ سريع وجذري. فهذا من البديهيات، إنما النقاش المفتوح يبقى متعلقاً في كيفية المعالجة. أسئلة كثيرة لا أجوبة عليها إزاء هذا الملف المتورم، والذي يضفي تورماً لبنانياً يتمدد أكثر فأكثر. لم يكن تهجير السوريين من سوريا أمراً عبثياً حتماً، كان في سياق سياسة ممنهجة اعتمدها النظام السوري برعاية دولية، شهدت على أكبر عملية ترانسفير ديمغرافي.
الصمت الدولي الكبير
في لبنان، يرتكز معارضو اللجوء إلى سؤال أساسي يتعلق بالسبب الذي يدفع المجتمع الدولي لعدم إعادتهم إلى أراضيهم. الجواب البديهي المقدّم هو أن لا ضمان لعودة آمنة ولا مقومات للعيش في سوريا حتى الآن. وهذا صحيح. ولكن لا شك أيضاً أن ثمة أسباباً أخرى تمنع ذلك، أبرزها عدم وجود مساع جدية للحلّ السياسي في سوريا، وإمكانية إبقاء هذا الواقع الديمغرافي المختل في سوريا وفي لبنان معاً، لإشعار الجميع بالخطر الوجودي المحدق. وربما هناك من يتبنى نظرية المؤامرة في هذا المجال، فيذهب إلى القول إن بقاء اللاجئين من دون حلّ ومعالجة، وعلى وقع الكثير من حملات التحريض وتحميلهم كل مسؤوليات الانهيار اللبناني، الهدف منه تفجير الوضع الأمني في لبنان من بوابة اجتماعية تتصل باللاجئين.
تبرز الحملة الضخمة والمنظمة على اللاجئين، "إبداع" اللبنانيين في تحميل المسؤوليات للآخرين أو لـ"الغرباء". وهو ما انتهجوه سابقاً تجاه اللاجئين الفلسطينيين، ما أوصل البلاد إلى حرب أهلية. تلك المشاهد تتكرر اليوم على وقع تجدد الدعوات إلى التقسيم أو الإنفصال أو الطلاق. أو من خلال الدعوات إلى التحرر من "احتلال" اللاجئين للبنان، في تكرار لأدبيات سالفة بدأت بالدعوات إلى تحرير لبنان من "الاحتلال الفلسطيني" ومن الاحتلال السوري لاحقاً ما بعد السبعينيات. علماً أن من طرح سابقاً نظرية تحرير لبنان من الفلسطينيين هم الذي كانوا من أبرز دعاة استقطابهم وتنظيم وجودهم في لبنان بمخيمات قريبة من المناطق الصناعية والزراعية، للاستفادة منهم كأيدي عاملة ذات كلفة منخفضة، بالإضافة إلى استقطاب رؤوس الأموال الفلسطينية بعد النكبة، وفيما بعد تم تحويلهم إلى أعداء. الأمر نفسه تكرر مع الفئة نفسها التي عملت على استقطاب النظام السوري وجيشه طلباً للمساندة في العام 1976، وفيما بعد انقلبت الأحوال. هذه المشهديات والأدبيات تتكرر اليوم، وقد أصبحت قابلة للانفجار في أي وقت. في ظل صمت دولي كبير على كل ما يجري في لبنان وسوريا.
ابتزاز مشترك
وجدت السلطة في لبنان اللاجئين كبش فداء لكل الأزمة اللبنانية. وبنتيجة الرعونة اللبنانية في التعاطي مع هذا الملف، تحول اللاجئون بشكل أو بآخر إلى ورقة ضغط وابتزاز يستخدمها النظام السوري تجاه لبنان، وتجاه المجتمع الدولي. لا يغيب الابتزاز عن السلطة اللبنانية التي تعمل منذ سنوات على تبنّيه حيال المجتمع الدولي للحصول على مساعدات وأموال بنتيجة استقبال اللاجئين. وهي التي تتحمل المسؤولية عن انفلاش اللجوء من دون إدارته وتنظيمه. ومن يقرأ الترويج لسليمان فرنجية، وبأنه القادر على إعادتهم إلى سوريا، يتيقين بأن هذا الملف أصبح ورقة أساسية لدى النظام، الذي قد تستجدّ لديه مطالب كثيرة وأطماع وفيرة في لبنان وخارجه.
مسؤولية لبنانية
تبحث الأحزاب عن إعادة تعويم شعبيتها بالتحريض على "السوري"، وخصوصاً لدى المسيحيين، الذين يعيشون رهاباً ديمغرافياً مع مسلمي لبنان، فكيف بالحري مع فائض إسلامي، وسنّي بالتحديد وغير لبناني. بالتأكيد، أن الحملة، بتطوراتها وأبعادها، وربطها بسياقات إقليمية ودولية لن تقف عند هذه الحدود. لا بد أنها ستستمر على وقع زيادة منسوب الدعوات للانفصال والطلاق أو التقسيم. علماً أن لبنان يتحمل مسؤولية عن هذا اللجوء الكثيف نتيجة مشاركته وانخراطه في الحرب السورية.
ثمة من يذهب إلى الاعتقاد بأن إثارة هذا الملف والقلقلة من حوله، هدفه الضغط على حزب الله، الذي لا يريد الفوضى، فيكون ساعياً إلى تجاوزها بجملة خطوات سياسية وأخرى ترتبط بالسعي لإعادة أعداد من اللاجئين. فيما هناك من ينتظر من النظام السوري أن يقدم على مبادرة كإبراز حسن نية في تعزيز علاقاته الثنائية مع السعودية ودول الخليج، من خلال اتخاذ خطوة تقتضي بإعادة عدد من اللاجئين، وبذلك سيوقعهم تحت رحمته مجدداً.
"المدن"
شهدت مؤخرًا هنا في مونتريال على جدال حامٍ بين مجموعة من اللبنانيين المغتربين، والذين يمكن تصنيفهم بـ "المثقفين"، مع تمايز في انتماءاتهم السياسية، حول النزوح السوري في لبنان، ومدى تأثيره على الحياة العامة في لبنان من النواحي الديموغرافية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية.
تفاوتت الآراء، وتعدّدت وجهات النظر، وتباعدت ردود الفعل، ولكن في النتيجة فهذا الجدال، يمكن اعتباره جدالًا مستكملًا، إلى أن يحين موعد العودة الآمنة لهؤلاء النازحين غير المحدّدة أعدادهم الرسمية إلى ديارهم، خصوصًا بعد تكامل حلقات عودة سوريا إلى الأحضان العربية، مع ما تستلزمه هذه العودة من فتح ملف النازحين، وبالأخص الموجودين في لبنان، بكل مندرجاته مع وجوب تحمّل جامعة الدول العربية المسؤولية الكاملة إلى جانب المسؤولية الأممية، وإمكان مساعدة لبنان على تحمّل جزء من الأعباء التي يتكبدّها جرّاء هذا الوجود الكثيف، الذي يفوق طاقة هذا البلد الرازح تحت أحمال اقتصادية ثقيلة جدًّا.
وبالعودة إلى الجدل غير البيزنطي، الذي كنت شاهدًا عليه، من دون مشاركة فعلية مني شخصيًا، لأنني فضّلت أن أكون مستمعًا أكثر مني متكلمًا، مع أنني كنت ميالًا إلى رأي فئة من المشاركين في هذا الجدال، الذي كان يصل في كثير من الأحيان إلى شيء من الحدّة، ولكن من ضمن أصول اللياقة في التعابير، التي لم تنحُ في اتجاه التجريح، يمكن تفصيل ما كان يتمّ تناوله إلى قسمين أو إلى رأيين:
أصحاب الرأي الأول، وهم في غالبيتهم ينتمون إلى الفكر اليساري والإيديولوجي، يعتبرون أن النازحين السوريين ظلموا مرّتين: الأولى عندما هُجرّوا من منازلهم وقراهم بعد تهديدهم من قبل، إمّا فصائل "داعش" و"النصرة"، وإمّا من قبل "النظام"، وهم عندما هُجرّوا إلى لبنان أو إلى الاردن أو تركيا لم يكن ذلك بملء إرادتهم، خصوصًا أن وضعهم يشبه كثيرًا وضع بعض اللبنانيين، الذين اضطرّوا للهجرة خلال الحرب من قراهم الجبلية إلى أماكن أخرى، وإن كانت هجرتهم داخلية وليست خارجية كما هي الحال مع النازحين السوريين، وقبلهم النازحين الفلسطينيين.
أمّا الظلم الثاني الذي لحق بهم، على حدّ منطق أصحاب الرأي الأول، فأتى من اللبنانيين، الذين تعامل قسم منهم مع النازح السوري بشيء من العنصرية، وكان التعاطي معهم بفوقية، وأحيانًا كثيرة بشيء من الكراهية. وهذا الأمر، في رأي هؤلاء، يقود إلى تفاقم الاحتكاك اليومي بين النازحين، حيث هم موجودون وبين والأهالي.
أمّا أصحاب الرأي الآخر فيعتبرون أن هذا النزوح هو بمثابة قنابل موقوتة لا يعرف أحد متى تنفجر، خصوصًا مع تزايد الاستفزازات، التي يقوم بها هؤلاء النازحون، والتي غالبًا ما تُقابل بردود فعل سلبية من قبل الأهالي، وقد يصل الأمر إلى حدود الاحتكاك المباشر، والذي ينذر بعواقب وخيمة، على رغم التدّخل السريع من قبل القوى الأمنية، وبخاصة الجيش، الذي يحاول في كل مرّة إخماد أي خلاف فردّيًا كان أم جماعيًا إلى تفاقم الوضع الأمني، مع العلم أن السلاح الفردي غالبًا ما يُستعمل من قِبَل الطرفين. وهنا تكمن الخطورة على حدّ قول أصحاب الرأي الثاني.
أمّا الخطورة الثانية فهي في نسبة الولادات السنوية، والتي تصل إلى أرقام مفاجئة ومخيفة في آن، خصوصًا أن الإحصاءات الدقيقة غير متوافرة لا عن أعداد النازحين ولا عن أعداد الولادات، مع استمرار تحمّل الدولة اللبنانية أعباء اقتصادية تفوق قدرتها الاحتمالية، في ظل ما يتعرّض له لبنان من أزمات متشابكة ومتفاقمة.
وفي خلاصة هذا الجدل، وهو جدل قائم أيضًا في لبنان وليس فقط في المغتربات، أن ثمة قاسمًا مشتركًا بين أصحاب هذين الرأيين، وهو أنه لا بدّ من أن تعمل الأمم المتحدة مع سائر الدول المعنية بهذه القضية الإنسانية على تأمين الظروف الطبيعية لعودة آمنة لهؤلاء النازحين إلى ديارهم بعد أن يستتّب الأمن فيها، مع ضرورة مراعاة وضع لبنان، والعمل بجهد للحؤول دون تطّور أي احتكاك بين السوريين النازحين والأهالي.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|