المجتمع

"اليد الخضراء": الصراع على الزعتر البري

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

من أعلى وبلقطة واسعة، نرى الطبيعة الممتدة للجولان، المشهد الجبلي المكسو بالخضار لا يعكر جمالياته سوى الموسيقى التصويرية المصاحبة، وهي الأقرب إلى الإيقاعات الآلية لأفلام الخيال العلمي، أو لنكون أكثر دقة ما يبدو كمحاكاة ساخرة لموسيقى سينما الخيال العلمي.

تقترب الكاميرا أكثر وتركز على حركة في الأسفل، وببطء يتضح أنها لرجل يختفي بين الأشجار ليقوم بالتقاط الأعشاب البرية. يفرض المشهد الافتتاحي لفيلم "اليد الخضراء" (2022) للفلسطينية جمانة مناع، مشاعر ملتبسة، ففي مقابل اللذة التي يلهمها الاستسلام للجماليات البصرية للطبيعة، فإن اللقطة العُلوية الكاشفة والمهيمنة وموسيقاها تلقي بثقل الشعور المراقبة وتوتر انتظار تهكمي لغزو فضائي على وشك الحدوث.

في هجين فيلمي يجمع بين المقاطع الوثائقية والمقاطع الروائية ذات الحوارات المُمسرحة، تستكمل مناع العمل على موضوعها الأثير، أي سياسات الحفظ المتعلّقة بالبيئة والقانون ونتائجها المتناقضة، وهو الموضوع الذي تقاربه عبر وسائط متنوعة، بين النحت والتجهيزات الفنية والسينما. يتتبع "اليد الخضراء" المطاردات بين ضباط سلطة "حماية الطبيعة" الإسرائيلية وبين الفلسطينيين، وبالأخص كبار السن، ممن يقومون بقطف الأعشاب البرية من الطبيعة.

بحجة حمايته من الانقراض، منعت السلطات الإسرائيلية جمع الزعتر البري منذ العام 1977، وبعد ذلك بثلاثة عقود أضيف العكوب إلى اللائحة. تُفرض على المخالفين من الفلسطينيين غرامات ثقيلة بالإضافة إلى مصادرة العشب الملتقَط، وفي حالة الامتناع عن السداد يتعرض بعضهم لإحكام بالسجن. في مقطع مسجل من التلفزيون الإسرائيلي يعود إلى السبعينيات، يتضح المنطق الصريح لسياسات الطبيعة الاستعمارية، فربّ أسرة إسرائيلي يظهر على الشاشة ليتحدث عن الاستيلاء على الزعتر وتحويله إلى "رمز وطني لإسرائيل" أو رمز للتعايش"، عبر منع الفلسطينيين من التقاطه لصالح زراعته في الكيبوتسات، ومن ثم إجبارهم على شرائه من هناك، بل وحتى تصديره إلى بقية العرب بعد تزييف مصدره. الصلافة المبالغ فيها في نص هذا المقطع الوثائقي وتبجح صراحته، لا يحيلان إلى عمل تقريري حول السياسات الإسرائيلية، بل يحوّلانه إلى فاصل تهكمي داخل الفيلم يستدعي الضحك.


يسحبنا "اليد الخضراء" نحو دوائر من التكرار، أشبه بالطبيعة في دوريتها، حين يبحث أبطاله عن الأعشاب ويقطفونها، وسط مشاهد برية للجليل وبحيرة طبرية والجولان، ومن ثم يلاحقهم حراس البيئة الإسرائيين. وتتكرر مشاهد الاستجواب والتهديد بالإحالة إلى المحاكمة، والمثول أمام القاضي، ويلجأ هؤلاء لطرائق مختلفة للدفاع عن أنفسهم وللعناد، مرات بالإنكار وادعاء البراءة بطرق قد تبدو طفولية، ومرة بصيغ أقرب إلى الشعر "أنا الطبيعة، والطبيعة أنا"، ومرات أخرى باللجوء إلى التاريخ والوراثة، فهذه أرضنا وهذه عشبتنا، أو بالاعتماد على حجة الحاجة، فهناك أطفال ينبغي إطعامهم، والملاذ الأخير برفض الاعتراف بقانون الاحتلال إجمالاً. لكن، وفي تلك المحاولات كلها، ثمة ما يدعو للتهكم، أو بالأحرى للدهشة الساخرة أمام الغرابة، كيف يمكن لأكثر الأفعال أريحية، والمحفوظة من جيل إلى جيل، أن تصبح جريمة؟! هناك أسئلة جادة أيضاً تطرح ضمناً وفي ثنايا مشاهد الطبيعة الخضراء والحوارات العبثية في المحاكم، كيف يمكن لحجة البيئة أن تصبح أداة لقمع المستعمِرين، وكيف تفرض على المستعمَرين اغتراباً عن الطبيعة، وعن ماضيهم وتقاليدهم؟

بعيداً من تلك المطاردات، تخلق مشاهد الفيلم عالماً من السكينة، مفعماً بوفرة الحركة والدفء، تُختزل عناصره في بُعد واحد يوجز كل شيء آخر، هو العشبة البرية، وكأن الحياة اليومية تدور حولها حصراً. العكوب، دواء ومقوٍّ وطعام ومنشّط جنسي، لكنه أيضاً ذاكرة وميراث يقع في المركز من علاقات الجيرة والقرابة التزاور والمآدب، عالم من مقاومة هادئة في الجبال والمطابخ وعلى الموائد.

(*) يعرض الفيلم حالياً في دور السينما البريطانية

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا