بالفيديو : بعد تواريه عن الأنظار لأشهر... دكتور فود يطّل على متابعيه من جديد
النزيف القاتل: هجرة الأطباء الشباب نحو أميركا وكندا
لم يشأ حكام لبنان يوماً لا احتضان أبناء الوطن ولا بناء وطن يحتضن أبناءه، فيتكرر المشهد مع كل نهاية عقد من الزمن وبداية أزمة جديدة، أمنيّة كانت أم اقتصادية، وتكثر العناوين الإخبارية السلبية والمضمون واحد: "المطار مزدحم.. الشباب يغادر".
هي أرض الموت البطيء، تفرض على أهلها خياريْن لا ثالث لهما: إما القتال من أجل البقاء في تلك الأرض، أو مغادرتها بحثاً عن حياة. فتراها على مدرجات مطار بيروت، هذه الطائرات المحمّلة بقلوب تخفق من الخوف والحماسة في آنٍ واحدٍ، وبالكثير من العيون الحزينة التي تارة تبكي لفراق الأهل والأصدقاء وطوراً تلمع من لهفة البدايات الجديدة والفرص الكبيرة. هي حالة من الانفعالات المتناقضة يعيشها المغتربون منذ لحظة اتخاذهم قرار مغادرة لبنان، ولكنها لا تنتهي مع وصولهم إلى برّ الأمان.
تهجير لا هجرة
"إن هجرة الشباب ليست وليدة الصدفة ولا اليوم، بل هي نتيجة سياسات دولة اعتُمدت منذ زمنٍ، وقائمة على تهجير الشباب لإدخال المال إلى البلاد"، يقول الباحث في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف في بيروت وأحد مؤسسي "المفكرة القانونية"، سامر غمرون. هو المقرّب من طلابه والمدرك تماماً لمشاكلهم ولطموحاتهم يضيف: "الوضع كارثي ومدمّر للبلد ولمستقبله، لكنّه مفيد للطبقة السياسية والمافيا الحاكمة. فالأكثرية الساحقة من طلابي تريد هجرة لبنان. وهذه الحقيقة المحبطة تدفعني للتساؤل لمن أنقل هذه المعرفة؟ لشباب يهاجرون وتستفيد منهم مجتمعات أخرى؟"
تلك المجتمعات تقدّم ما لديها من فرصٍ كبيرةٍ، تدفعنا إلى التساؤل دائماً ما إذا كان خيار البقاء في لبنان يستحقّ العناء، خصوصاً أن الأزمة المالية قضت على كل القطاعات التي كان لبنان يتباهى بانتاجيتها يوماً، والتي كانت طريقاً صالحاً يسلكه الشباب بعد الانتهاء من الدراسة والبحث عن كيفية تأمين مستقبلهم. كالقطاع الطبي على سبيل المثال الذي عانى ما عاناه من نكسات جراء الأزمات المتتالية، وما زال.
انهيار القطاع الطبي
أمست هجرة الأطباء ظاهرة اجتماعية ملحوظة جدّاً تثير المخاوف وتهدّد القطاع الصحي، بما أن عدداً كبيراً من المتخرّجين من كليات الطب اللبنانية لا يلتحقون بالبرامج الطبية التي تقدمها المستشفيات الجامعية في لبنان، بل يبحثون عن فرص عمل في مجال الأبحاث، وعن وبرامج طبية أخرى في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية. وآخر الأرقام لا تكذب. ففي عام 2021 تَصدّر لبنان المركز الخامس من حيث الدول التي تُصدّر العدد الأكبر من الأطباء المتخرّجين حديثاً إلى الولايات المتحدة، بعد حصولهم على فرصة عمل في مجال الأبحاث وتأشيرة دخول (J-1 Visa). وحسب الهيئة التعليمية للأطباء الخريجين الأجانب التي يقع مقرها في ولاية فيلادلفيا، 449 هو عدد خريجي الطب العام الذين غادروا لبنان عام 2021 إلى الولايات المتحدة. وهذا الرقم لا يشمل أنواع التأشيرات الأخرى والطلاب الذين يحملون أصلاً جوازات سفر أميركية أو بطاقات خضراء.
لبنان هو الخامس بـ"تصدير" الأطباء إلى كندا
كان لهؤلاء أملٌ بالبقاء في لبنان واستكمال تعليمهم الطبي وخدمة قطاعهم الصحي، لو كانت البنى التحتية لهذا القطاع متاحة وبحالة جيدة، ولولا النقص في الإمدادات الطبية، بما في ذلك الأدوية وآلات العلاج وأجهزة الاستنشاق وآلات غسيل الكلى والأدوات الجراحية وخزانات الأكسجين، ولولا انهيار نظام الرعاية الصحية في فترة انتشار وباء كورونا، ولو أنّهم لم يشهدوا على فظاعة ما سببته جريمة تفجير مرفأ بيروت في ذلك اليوم المشؤوم، ولو أن لدولتهم ومسؤوليهم نيّة لإصلاح ما ارتكبوه بحقّ لبنان ولإنقاذ قطاعاته. "إن الظروف التي نعمل بها صعبة جدّاً، إذ أننا نستقبل مرضى لا يتمتّعون بتأمين صحّي، فلا يستطيعون تحمّل كلفة العلاج ولا تتوفّر لهم العلاجات والأدوية اللازمة جراء الأزمة المالية"، قالت الدكتورة إيمان فغالي، وهي طبيبة مقيمة في السنة الثانية في قسم أمراض النساء والتوليد في مستشفى أوتيل ديو. إيمان من الأطباء الذين قرروا البقاء في لبنان في الوقت الحالي، ليس لعدم توفّر الفرص لها في الخارج، ولكن لاقتناعها بخيار البقاء "واكتساب خبرة كبيرة وقيّمة في لبنان، لا بدّ للمؤسسات العلمية والطبية الخارجية من أن تقدّرها يوماً ما".
البحث عن حياة طبيعية
ولكن هذا ليس حال زملائها من الأطباء الذين بات لهم خيار المغادرة هو الحلّ الأنسب. فرغم تقدير الدكتورة دانا أبو صالح "للمعرفة المكتسبة خلال فترة الدراسة في كلية الطب وفترة التدرج في المستشفيات اللبنانية، إلّا أن ما حصل في لبنان من أزمة محروقات ونقص الأدوية والعلاجات كان الدافع الأساسي وراء مغادرتي لبنان"، قالت دانا، وهي الآن باحثة في معهد أمراض القلب في مونتريال. وتضيف: "قرّرت الرحيل لأنني على اقتناع أنني لن أصبح في لبنان الطبيبة التي أريد أن أكونها، ولهذا السبب أستبعد عودتي إلى البلد يوماً، خصوصاً وأنني أحمل جواز سفر كندي. كما أنني بنيتُ علاقات جيّدة مع زملائي في مسار عملي كباحثة، وإنني في صدد أن أصبح طبيبة جاهزة لأن تعمل في القطاع الطبي الكندي".
كيف لنا جميعاً، وليس فقط لطلاب الطّب، أن نكون يوماً ما نريد أن نكونه في لبنان، وهو بلد لا يقدّم أدنى مستويات العيش البسيطة؟ فبالإضافة إلى تلك المسلّمات، إن بلدان الخارج تتيح لنا "فرصاً واسعةً جداً وخيارات جديدة قابلة للاستكشاف"، كما أفاد الدكتور جان بول فرحات، وهو باحث في جامعة "ستوني بروك" في ولاية نيويورك.
ويضيف: "إن البيئة التي تحيط بي تحفزني دائماً وتدعمني. فهنا نتمتّع بالاستقلال المالي والإمكانية السّهلة للحصول على الحاجات والحقوق، الأمر الذي يساهم في نضوجنا الفكري. فبالرغم من حبّي لبلدي والمكان الذي نشأت فيه، إلّا أن خيارات العمل في القطاع الطبي محدودة مقارنة بالولايات المتحدة، كما بالنسبة للمردود المادي والمعنوي".
الأزمة الساحقة
شابتان وشاب، هم نموذج صريح عن حال الشباب في لبنان، ليس في خبر هجرة الشباب أي جديد، فبات هذا الواقع حاضراً صامتاً. واقع طاردَ اللبنانيين في الماضي، وسيلاحقهم في المستقبل. فالأزمة المالية التي طالت القطاع الطبي وغيره من القطاعات العاملة هي أزمة ساحقة، ولا أحد يقوى عليها.
نغادر أمام عيون الحكّام، ونحمل معنا ما استطعنا أن نجمعه من ذكريات سعيدة لنجلس معها في عزلتنا. عزلة المغترب هي الوقت الذي يمضيه في محاربة الأفكار التي قد تزعزع استقراره النفسي. أفكارٌ تتراوح بين الامتنان للفرصة، والحزن من بُعْدِ المسافات، والحقد على من تسبب بها. مسافاتٌ، صارت أمهات لبنان يَتَمَنَّيْنَها لأولادهم بسبب رداءة الأوضاع وكثرة المصائب.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|