لبنان بين اللائحة الرمادية والتطبيع مع الأزمة
يرزح لبنان تحت أزمة اقتصادية خانقة تزداد تعقيداً جراء الفراغ الذي يجتاح مؤسسات الدولة لا سيما في موقع الرئاسة الأولى ومراوحة السلطة التنفيذية في مربع تصريف الأعمال، اما السلطة التشريعية فموزعة بين افرقاءٍ سياسيين لا يتفقون فيما بينهم الا على حساب اللبنانيين. وبينما ينتظر اللبنانيون من السلطة بلورة خطةٍ اقتصادية توقف الانهيار الاقتصادي وتؤمن الظروف المؤاتية للنهوض الاقتصادي وإطلاق عجلة النمو، يثير الافرقاء الغبار حول الاستحقاق الرئاسي شراءً للوقت الذي ترتفع تكلفته على الاقتصاد الوطني ويطيل الفترة التي تتطلبها عودة العجلة الاقتصادية للدوران بشكل طبيعي.
وفي ظل تعثر المحاولات الخجولة لمعالجة الازمة المستشرية وتقاعس السلطة عن القيام بدورها في معالجة أسباب الازمة، كان لا بد للبنانيين من التعايش مع هذه الازمة وتداعياتها لتأمين الحد الأدنى من سبل العيش التي تزداد صعوبة. وبعد سطو السلطة السياسية والقطاع المصرفي بالتكافل والتضامن على مدخرات اللبنانيين، جاء انهيار العملة الوطنية ليقضي على قدرتهم الشرائية ويعدم آمالهم في الحفاظ على الحد الأدنى من الحياة الكريمة لا سيما موظفي القطاع العام من مدنيين وعسكريين.
وبينما يُكافح معظم اللبنانيون للتعويض عن الخسائر التي لحقت بهم إن لجهة مدخراتهم أو لجهة قدرتهم الشرائية، تتضاءل فرص العمل نتيجة عدم قيام استثمارات جديدة في ظل عدم الاستقرار السياسي وتلاشي سلطة الدولة وعدم قيامها بدورها المحفز للاستثمارات الاقتصادية من جهة والناظم والموجه لهذه الأنشطة من جهة ثانية. وفي الوقت الذي كانت تُرجح التقديرات أن يزداد عدد الفقراء بين اللبنانيين يُبين الطلب على السلع الاستهلاكية من مواد غذائية وغيرها المبالغة في هذه التقديرات حتى لا نقول عدم صحتها، وإذا ما كان هناك فقراء جدد نجد في المقابل ميسورين جدد.
ويأتي تقرير "المرصد الاقتصادي للبنان" تحت عنوان "التطبيع مع الازمة ليس طريقاً للاستقرار" الذي نشره البنك الدولي ربيع العام 2023، ليلقي الضوء على آخر التطورات الاقتصادية في البلاد لجهة مواصلة الاقتصاد اللبناني انكماشه في العام 2022 واستمرار حال التعثر في القطاع المصرفي بالإضافة الى التدهور المتمادي في قيمة الليرة اللبنانية.
ويقدر تقرير البنك الدولي حجم الاقتصاد النقدي المدولر بنحو 9.86 مليار دولار أو 45.7% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2022. ويعتبر الاقتصاد النقدي المنتشر والمتزايد بالدولار عائقاً رئيسياً أمام التعافي الاقتصادي في لبنان، فهو لا يهدد بالمساس بفعالية السياسة المالية والنقدية فحسب، بل يزيد أيضاً من مخاطر تبييض الأموال، ويزيد من التهرب الضريبي ومن النشاط الاقتصادي غير الرسمي.
فيما ينظر الى منصة صيرفة للصرف الأجنبي، وهي الأداة النقدية الرئيسية التي يستخدمها مصرف لبنان لتحقيق استقرار سعر صرف الليرة، على انها ليست أداة نقدية غير مؤاتية وحسب، بل هي أيضاً آلية او أداة لتحقيق أرباح من عمليات المراجحة. معتبراً انها تُشكل من نواح عديدة، نموذجاً للسياسات الضعيفة وغير المجدية غالباً التي تعتمدها السلطات اللبنانية منذ اندلاع الأزمة.
ويتوقع التقرير استمرار امتناع القيمين على الشأن العام عن اتخاذ القرارات المناسبة لمعالجة الأزمة وانعدام الارادة السياسية لتنفيذ اصلاحات مؤاتية وعادلة خلال العام 2023. ليخلص إلى أنّ التطبيع مع الأزمة في ظل هذا الواقع، يحجب حقيقة أن الاقتصاد اللبناني لا يزال يشهد تراجعاً حاداً، وبعيد بصورة ملحوظة عن تحقيق متوجبات الاستقرار ناهيك عن متطلبات التعافي.
من جهته، أجرى قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "مجموعة العمل المالي" وهي هيئة معنية بمراقبة الجرائم المالية، تقييماً أولياً للاقتصاد اللبناني وضعت نتيجته التراكمية لبنان "فوق عتبة القائمة الرمادية بعلامة واحدة". وذلك بعد تصنيف لبنان على أنه ملتزم جزئياً بالمعايير المتعلقة بعدة فئات، منها إجراءات مكافحة غسل الأموال والشفافية فيما يتعلق بالملكية الفعلية للشركات والمساعدة القانونية المتبادلة فيما يتعلق بتجميد الأصول ومصادرتها. فيما تُرجح بعض التقديرات وضع لبنان على "القائمة الرمادية" للدول الخاضعة لرقابة خاصة بسبب ممارسات غير مرضية لمنع غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وقد يؤدي إدراج دولة ما على القائمة الرمادية "لمجموعة العمل المالي" إلى تعطيل تدفقات رأس المال اليها، مع احتمال توقف المصارف المراسلة عن التعامل مع المصارف والعملاء الموجودين في البلدان العالية المخاطر لتقليل تكاليف الامتثال، وذلك بحسب وثيقة لصندوق النقد الدولي تعود للعام 2021. كما أن مثل هذا الإدراج يُلحق الضرر بسمعة البلد المُدرج، ويؤدي الى تعديل تصنيفه الائتماني مع ما يعنيه ذلك من صعوبة حصوله على تمويل دولي وارتفاع تكاليف معاملاته المالية.
وتجدر الإشارة الى أنّ معظم الدول المدرجة على اللائحة الرمادية "لمجموعة العمل المالي" هي دول مكتملة المواصفات، خلافاً لما هو عليه وضع الدولة اللبنانية التي تتلاشى سلطتها وينهش الفراغ مؤسساتها يوماً بعد يوم. وتجدر الإشارة إلى أنّ أربع دول عربية هي مدرجة حالياً على اللائحة الرمادية اثنتان منها (الامارات والأردن) تتمتعان بسلطة مركزية فاعلة، اما سوريا واليمن فتعانيان من حروب لم تنته فصولاً بعد.
ويأتي إدراج لبنان بمثابة اتهام إضافي للنظام المالي اللبناني بعد إصدار القضاء الفرنسي مذكرة توقيف دولية بحق حاكم المصرف المركزي، وكذلك فعل اليوم القضاء الألماني، في وقت تشتد فيه الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية. فيما الحكومة عاجزة عن اتخاذ الإجراءات المناسبة للحؤول دون ادراج لبنان على اللائحة الرمادية، وهي غير راغبة في اقالة حاكم مصرف لبنان في ظل الشغور الرئاسي من جهة والتهرب من تطبيق احكام قانون النقد والتسليف لجهة تولي النائب الأول مهام الحاكم بعد اقالته او استقالته من جهة ثانية.
في المقابل، إن توالي صدور التقارير المتعلقة بوضع لبنان المالي والاقتصادي، وكثرة التسريبات التي تندرج في الإطار عينه يدعو الى قراءة متأنية للتقارير والتسريبات على أهمية مصادرها. سيما وان الانهيار المالي في لبنان أدى بالفعل إلى تقييد المعاملات المصرفية بشدة وقطعت العديد من المؤسسات المصرفية والمالية علاقاتها مع البلاد، من دون الحاجة الى ادراجه على اللائحة الرمادية. ما يدل على ان هذا الخبر المسرب او التهديد، انما يندرج ضمن خطة لتصفية ما تبقى من مؤسسات مالية ومصرفية في لبنان.
أما فيما يتعلق بتقرير البنك الدولي الذي يربط بين تنامي الاقتصاد النقدي المدولر وانهيار القطاع المصرفي ويعتبره عائقاً امام التعافي الاقتصادي، ففيه تجاهل للأسباب التي أدت الى الاقتصاد النقدي الا وهي امتناع القطاع المصرفي عن الاستمرار في القيام بتمويل القطاعات الاقتصادية وتلبية المودعين. ومن دون الاقتصاد النقدي لم يكن ممكناً استمرار الأنشطة الاقتصادية على اختلافها، لا بل إنّ هذا الاقتصاد هو أمن الهبوط الآمن للاقتصاد الوطني وضمن إمكانية انطلاقه من جديد.
وقد يُسهل الاقتصاد النقدي تبييض الأموال والتهرب الضريبي وربما تمويل الارهاب، غير ان هذه المخالفات المالية لا تقتصر على هذه الاقتصادات، لا بل هي تنشط حتى في الدول التي تتمتع بأنظمة مالية عريقة في مكافحة تبييض الأموال والحد من التهرب الضريبي. ولبنان اليوم هو احوج ما يكون الى تسهيل انشطته الاقتصادية بالوسائل المتاحة، ذلك أنّ استعادة النمو الاقتصادي تكمن في الحفاظ على القطاعات الاقتصادية القائمة لا على افتعال العراقيل في طريقها.
وإذا كان التطبيع مع الازمة ليس طريقاً للاستقرار بحسب تقرير الصندوق الدولي، الا انه بالنسبة للبنانيين وسيلةً للبقاء على قيد الحياة. وفي حين يؤخذ على اللبنانيين سرعة تعايشهم وتأقلمهم مع الأوضاع أياً تكن مصاعبها، تأتي مواجهتهم للازمة الحالية أقرب الى المقاومة منها الى التطبيع الذي يعني حتى في الاقتصاد الاستسلام للأمر الواقع. ولعل في تراجع نسبة الانكماش الاقتصادي خلال العام 2022 عما كانت عليه في الاعوام التي سبقتها دليلاً على هذه المقاومة، علماً أنّ بعض الاقتصاديين يعتبر وخلافاً لتقديرات البنك الدولي اننا أصبحنا في مرحلة النمو الإيجابي وان بنسبٍ متواضعة. العميد الإداري غازي محمود
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|