الدولة ربحت 90 مليار $.. لا حصّة للمودعين منها؟
ربحت الدولة اللبنانية 90 مليار دولار، وفق تقدير متحفّظ، خلال أربع سنوات من عمر الأزمة، وحقّقت بعض فئات الشعب مكاسب بعشرات المليارات، فيما تحمّلت ثلاث فئات فاتورة الأزمة: الموظّفون، خصوصاً في القطاع العامّ، والمودعون، ودائنو الدولة.
1- مكاسب الدولة
مكاسب الدولة أتت بشكل رئيسي من مسح 98% من قيمة ديونها بالليرة اللبنانية، وكامل مدفوعات فوائد قروضها بالدولار منذ آذار 2020 حتى اليوم.
كانت الديون عشيّة ثورة 17 تشرين الأول 2019 تزيد على 90 تريليون ليرة، بالعملة الوطنية، ونحو 33 مليار دولار بالعملات الأجنبية (سندات اليوروبوندز).
الدين بالعملة الوطنية كانت قيمته تعادل 60 مليار دولار وفق سعر الصرف حينها، وباتت تعادل الآن أقلّ من 700 مليون دولار وفق سعر السوق. بالإضافة إلى ذلك، حقّقت الدولة ربحاً مباشراً يزيد على ستّة مليارات دولار من توقّفها عن خدمة ديونها منذ آذار 2020. ومن المؤكّد أنّها ستحصل في اتفاق مستقبلي مع الدائنين على حسم (هيركت) على اليوروبوندز، من المتوقّع أن يراوح بين 70% و80%، وهو ما يعني وفراً يراوح بين 22 و25 مليار دولار.
في المحصّلة، كسبت الدولة من انهيار الليرة والتوقّف عن السداد ما يراوح بين 85 و90 مليار دولار حتى اليوم. والربح يزداد كلّما انهارت الليرة أكثر ومرّ وقت أطول من دون خدمة الديون بالعملات الأجنبية. وتراجعت نسبة الدين العامّ إلى الناتج المحلّي من نحو 180% في بداية الأزمة إلى أقلّ من 100%، ليصبح لبنان أفضل حالاً من حيث نسبة المديونية من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا!
زد على ذلك مكاسب الدولة غير المباشرة من تآكل قيمة الرواتب والأجور التي تدفعها لموظّفي القطاع العامّ، والتي كانت تناهز قيمتها 9.6 تريليونات ليرة سنوياً، أي نحو 6.4 مليارات دولار وفق سعر الصرف القديم، وباتت الرواتب مع كلّ الزيادات المؤقّتة وبدلات النقل والإنتاجية لا تزيد على سبعة تريليونات ليرة، أي بمعدّل 84 تريليون ليرة سنوياً، أي أقلّ من مليار دولار بسعر الصرف الحقيقي اليوم. لكن لنؤجّل هذا الحساب، لأنّ أموراً كثيرة تغيّرت في حساب إيرادات الدولة ومصروفاتها، ولو أنّ الأهمّ في هذا الاعتبار أنّ الأزمة حيّدت الأثر الجنوني لإقرار سلسلة الرتب والرواتب في 2017 على المالية العامّة لسنوات مقبلة. ويكفي أنّ ماليّة الدولة سجّلت في 2021 أوّل فائض منذ عشرات السنين، بنحو 2.2 تريليون ليرة (!).
2- مكاسب القطاع الخاصّ
في جانب القطاع الخاصّ، فئات كثيرة ربحت من الأزمة، أكبرها فئة من الأثرياء والشركات الكبرى الذين تخلّصوا من قروض وفوائد بعشرات مليارات الدولارات، بفضل التصفية الممنهجة لتلك القروض بسعر الصرف الرسمي القديم (1,500 ليرة للدولار) أو من أموال المودعين. وقد بدت عليهم آثار النعمة في بحبوبة الإنفاق التي عادت إلى الظهور في مجالات كثيرة. وتضاف إليهم فئات من الطبقتين الوسطى والمحدودة الدخل، التي تمكّنت من سداد قروضها السكنية والاستهلاكية، فكسبت شققاً وسيارات بأسعار زهيدة.
يتّضح ذلك من انخفاض قيمة محفظة القروض بالدولار من 43 مليار دولار أواخر عام 2019 إلى أقلّ من 9 مليارات دولار اليوم. وقد حدث ذلك بتسهيل مباشر من مصرف لبنان، إذ إنّه سمح بسداد القروض الدولارية بالليرة أو بشيكات مشتراة من أموال المودعين. بل إنّه أعطى تسهيلات وإعفاءات من الغرامات لتشجيع السداد المبكر للقروض. ولم يتحرّك إلا في كانون الثاني الماضي لإصدار التعميم الوسيط 656 الذي ألزم المقترض غير المقيم بتسديد دينه بالدولار النقدي. وليس مفهوماً لماذا انتظر ثلاث سنوات ونصف سنة ليُصدر هذا التعميم بعدما تبدّدت 34 مليار دولار من محفظة القروض؟ ولماذا جعله مقتصراً على غير المقيمين، فيما تدولر كلّ شيء في الاقتصاد المحلّي؟
إلى جانب المقترضين، سجّلت فئات أخرى مكاسب كبيرة، منها التجّار الذي صبّت عندهم أموال الدعم الحكومي في السنة الأولى من الأزمة، والتجّار الذي استفادوا من أسعار الجمرك الزهيدة لإدخال سلع معمّرة مثل السيارات، وتخرينها، وتجّار العملة، والمحظيّون الذين استفادوا من النظام المشبوه لمنصّة "صيرفة".
في مقابل هؤلاء، وقعت خسارة الأزمة على ثلاث فئات أساسية:
1- أصحاب الودائع، وكثير منهم اقتنعوا بالخسارة وباعوا ودائعهم بشيكات زهيدة الثمن، فيما لا تزال 94 مليار دولار عالقة.
2- موظّفو القطاع العامّ الذين تآكلت مداخيلهم، وتدهورت التقديمات الصحية والاجتماعية المقدّمة لهم.
3- حاملو الدين الحكومي، سواء سندات الخزينة بالليرة اللبنانية أو اليوروبوندز (السندات الدولارية)، ومعلوم أنّ مصرف لبنان أكبرهم، لكنّ خسائره لن تقع على الدولة، على ما يبدو، بل على المودعين الذين استخدم مصرف لبنان أموالهم للاكتتاب بسندات الخزينة.
ما هو ملاحظٌ الآن، بعد أربع سنوات تقريباً، أنّ وقع الأزمة تلاشى، وأنّ الموسيقى استعادت صخبها القديم. عشرات المطاعم الجديدة تُفتتح في أرقى المناطق، والسيارات الفارهة عادت لتملأ الشوارع، وفرق كرة السلة عادت لشراء اللاعبين الأجانب كما كان الحال في 2019 وما قبلها، وحركة البناء نشطت بشكل لافت (التدقيق في مناطق النشاط يشير إلى كيفية توزّع أرباح الأزمة).
في المقابل، يبلغ الفقر حدّاً لم يعرفه لبنان من قبل.
ما حصل أنّ الثروة لم تتبخّر أو تتلاشَ، بل حدث تدوير لها من فئات إلى فئات أخرى داخل البلاد. وما تمّ تهريبه من أموال بدأ يعود "على نظيف" لشراء الأصول وتأسيس أعمال جديدة.
هل يكفي ذلك للقول إنّ الأزمة انتهت؟
بالتأكيد لا.
ثمّة مخلّفات كبيرة لا بدّ من معالجتها، وأهمّها أنّ قدرة الدولة على تمويل نفسها تبقى معطّلة ما لم تعالج ملفّ الدين الخارجي وتتوصّل إلى تسوية مع حاملي الدين الخارجي. ولتتوصّل إلى تسوية لا بدّ من اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وللتوصّل إلى اتفاق لا بدّ من تطبيق شروط الإصلاحات.
وليس بالإمكان الاستغناء عن هذه الكأس لأنّ الاقتصاد ما زال غارقاً في عجز الحساب الجاري، أي أنّ ما يدخل من العملة الصعبة إلى الاقتصاد لا يكفي لتمويل حاجات الاقتصاد والإنفاق الاستهلاكي، ولذلك تبقى العملة الوطنية عرضة للتراجع، وتبقى معدّلات التضخّم مرتفعة جداً، وقاتلة للقدرة الشرائية للفئات المحدودة الدخل.
وما دام الحال كذلك، لن تستطيع الدولة تمويل إنفاقها من الموارد المحلّية، وستظلّ الكثير من وظائفها معطّلة، خصوصاً إذا ما أرادت تعديل رواتب موظّفيها للّحاق بالتضخّم.
السؤال الأخلاقي والاقتصادي والسياسي الأهمّ: ماذا ستفعل الدولة بالمليارات التسعين التي كسبتها أو ستكسبها في الأزمة؟
الإجابة ستأتي من جانبين:
1- من خلال تصميم هيكل الماليّة العامّة في مرحلة ما بعد الأزمة.
ومن ضمن ذلك إصلاح القطاع العامّ وسلّم الرتب والرواتب من جهة، وإعادة توزيع الأعباء الضريبية من جهة أخرى. المشكلة الكبرى هنا أنّ صندوق النقد الدولي لا يعي في وصفته للبنان أهميّة تصميم برنامج يراعي العدالة (الأخلاقية قبل أيّ شيء) في توزيع أرباح الأزمة، وليس فقط خسائرها. هذه العدالة لا يمكن أن تتحقّق إلا من خلال الحُزم الضريبية التي لا بدّ للدولة أن تفرضها لتحقيق الاستدامة المالية، لتستعيد الضريبة وظيفتها الأساسية: إعادة التوزيع العادل للثروة والدخل.
2- من خلال تصميم إعادة هيكلة القطاع المالي، شاملاً مصرف لبنان والبنوك.
ثمّة أصوات مرتفعة منذ سنوات فرضت على الجميع قاعدة يُحرّم الخروج عليها، وهي عدم استخدام المال العامّ لحلّ أزمة المودعين. ليس مطلوباً كسر هذا المبدأ مباشرة، لكن ألا يجدر بدولة كسبت 90 مليار دولار أن تتحمّل، على الأقلّ، مسؤوليّتها المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف، بإعادة رسملة مصرف لبنان، وهو أساس البلاء في كلّ ما جرى؟ فذاك يكفي لحلّ نصف أزمة المودعين على الأقلّ.
هذان الجانبان هما في الواقع فرصتان متاحتان لإصلاح آثار العاصفة، بقدر ما يحملان من إمكانية لإعادة عجلة الفساد إلى سابق عهدها، إذا ما تُرك للقوى المهيمنة وضع يدها على كلّ شيء.
ليس في الحكومة أو في مجلس النواب من يعتني بكلّ هذا. بل تسير الأمور في اتجاه رفع صوت الموسيقى القديمة، وفتح دفاتر جديدة في البنوك، وإحالة الودائع القديمة إلى مستودع تأكله الجرذان. تلك وصفة مثالية لتوليد انفجار اجتماعي أو اقتصادي جديد في لحظة ما لا يعلمها إلا الله.
عبادة اللدن - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|