التزوير الأخير في ميزانيّات المركزي: خراب ستدفع ثمنه الأجيال
لم تحظَ قضيّة التزوير الأخيرة في ميزانيّات مصرف لبنان بالاهتمام الإعلامي والسياسي الذي تستحقه، ربما بفعل التقاطع الواضح بين أولويّات الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة الأساسيّة، ومصالح اللوبي المصرفي، المتفقان على تحميل الدولة -أي المال العام والمجتمع- كلفة الخسائر المصرفيّة، بدل فتح الدفاتر والتدقيق فيها، وإعادة الهيكلة المصرفيّة بعدل على هذا الأساس. ومع ذلك، ورغم التعتيم الإعلامي والسياسي المتعمّد، حظي الملف خلال الأيام الماضية بمتابعة كبيرة من الأوساط الماليّة والاقتصاديّة، المتابعة لتطوّرات الانهيار الاقتصادي اللبناني، والمهتمّة بمآلات الأزمة.
مع الإشارة إلى أنّ حاكم مصرف لبنان كان قد أعاد إنتاج ميزانيّاته منذ بداية الشهر الحالي، فحوّل ما يقارب 42.24 مليار دولار من الخسائر المصرفيّة التي كان يخفيها إلى ديون عامّة على الدولة اللبنانيّة، لتُضاف إلى نحو 16.5 مليار دولار من الديون العامّة، التي قرّر الحاكم خلقها على حساب الدولة أيضًا في شهر شباط الماضي (راجع المدن). وكل هذه العمليّات، صبّت في إطار إعادة توزيع الخسائر المصرفيّة، التي احتدم النقاش حولها على مدى السنوات الثلاث الماضية، إلى أن قرّر رياض سلامة البت بالموضوع من خلال عمليّات تزوير خاصّة في ميزانيّات المركزي.
النتيجة الأولى: وداعًا للتفاهم مع صندوق النقد
كما هو معلوم، حين تمّ الاتفاق الأوّلي مع صندوق النقد الدولي في شهر نيسان من العام 2022، جرى التفاهم على تقديرات محدّدة للخسائر المتراكمة في مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، كما وضعت خطّة التعافي الحكوميّة معايير محدّدة لكيفيّة توزيع هذه الخسائر، ومنها محاولة الحد من استخدام المال العام لإعادة رسملة القطاع المصرفي.
خطوات رياض سلامة الأخيرة، والتي عبثت بالأرقام الموجودة في مصرف لبنان، وبموافقة ضمنيّة من وزير الماليّة الصامت حتّى اللحظة، ستعني اللعب بتقديرات الخسائر، التي جرى تحويلها بألاعيب محاسبيّة إلى ديون عامّة، أي إلى عبء على المال العام.
وهذا العبث المجنون، سيعني الإنقلاب على خطّة التعافي المالي، وعلى التفاهم المعقود مع صندوق النقد، تمامًا كما حصل عام 2020، حين قرّر المجلس النيابي الانحياز لتقديرات جمعيّة المصارف ومصرف لبنان للخسائر ولكيفيّة توزيعها، بدل السير بتلك المتفق عليها -على أساس علمي- مع صندوق النقد.
وكما هو معلوم اليوم، لا يملك لبنان الكثير من الخيارات خارج إطار التفاهم مع صندوق النقد، إذ سيستحيل -من دون هذا التفاهم- العودة إلى الاقتراض من الأسواق الدوليّة، أو حتّى الحصول على رزم دعم وازنة من المؤسسات الدوليّة الأخرى، بما فيها تلك التي تم التعهّد بها في إطار مؤتمر سيدر.
النتيجة الثانية: تصفية الودائع
المطلوب من تحويل الخسائر إلى ديون عامّة، الانتقال إلى تنفيذ خطّة جمعيّة المصارف، التي تمّ الإعلان عنها منذ العام 2020، والقاضية بخلق صندوق سيادي، وتحويل الودائع إلى إلتزامات على هذا الصندوق، الذي يفترض أن يتكفّل بالسداد من استثمار الأصول العامّة أو من فوائض الميزانيّة العامّة.
وهذا المشروع، صار ممكنًا اليوم، بعد تحويل الخسائر المصرفيّة إلى إلتزامات على الدولة، ما سيبرّر ربط الودائع بهذا الصندوق. وخلال العام الماضي، تم التمهيد لتنفيذ هذه الفكرة، من خلال دس فكرة صندوق استرداد الودائع في خطّة التعافي المالي، بخلاف مندرجات التفاهم مع صندوق النقد.
هذه الفكرة، ستعني عمليًا تصفية الودائع المتبقية في القطاع المصرفي. فبعد عمليّة التزوير الأخيرة في ميزانيّات مصرف لبنان، ستصبح قيمة الدين العام الإجمالي بحدود 95 مليار دولار أميركي، أي ما يتجاوز 4.75 مرّات حجم الاقتصاد المحلّي بأسره. ومن الواضح أن هذا الحجم من الديون، لن يتم سدادها ولو بعد عقود طويلة، ما سيعني العودة إلى شطب قيمة الودائع، لكن هذه المرّة من بوّابة إعادة هيكلة الدين العام في المستقبل.
في واقع الأمر، يدرك الجميع اليوم أن سعر تداول سندات اليوروبوند، أي سندات الدين بالعملات الأجنبيّة، لا يتجاوز في أسواق المال الدوليّة 7% من قيمتها الفعليّة، نتيجة الشكوك في إمكانيّة تحصيل قيمتها في المستقبل. فأي عاقل يمكن أن يتصوّر أنّ تحويل الودائع إلى ديون عامّة على هذا النحو، وبعد مضاعفة حجم الدين العام، سيكون مقدّمة جديّة لتسديدها في المستقبل؟
النتيجة الثالثة: إجهاض مسار التعافي المالي
قبل عمليّة التزوير الأخيرة في الميزانيّات، كان يتوجّب على لبنان ما يقارب 34 مليار دولار من سندات الدين بالعملات الأجنبيّة. وكان من المفترض التفاوض مع حملة السندات لتخفيض قيمة هذا الدين لتقارب 100% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي، أي نحو 20 مليار دولار.
وهذا الإجراء، كان ضروريًا لاستعادة قدرة الدولة على دفع ديونها أولًا، ومن ثم التمكّن من استعادة التوازن في الميزانيّة العامّة نفسها، والعودة للإنفاق على البنية التحتيّة والإدارة العامّة وشبكات الحماية الاجتماعيّة، وغيرها من البنود الضروريّة لدخول مسار التعافي المالي.
بدل أن نعيد هيكلة الديون على هذا النحو، وبعد التزوير الأخير في ميزانيّة مصرف لبنان، سيكون لبنان قد ذهب في الاتجاه المعاكس تمامًا، عبر مضاعفة حجم الديون العامّة بدل تقليصها، ومن دون أي مسوّغ قانوني أو مالي. وفي النتيجة، سيكون رياض سلامة، ومن خلفه المنظومة السياسيّة والنخبة المصرفيّة، قد اغتالوا مسار التعافي المالي برمّته، في مقابل دفع البلاد باتجاه كابوس مالي لن نخرج منه قبل عقود طويلة من الزمن. ومن الأكيد أنّ أجيالًا من اللبنانيين ستدفع ثمن هذه المغامرات، طوال هذه المدّة.
مع الإشارة إلى أنّ ترتيب ديون على الدولة، لتصفية الخسائر المصرفيّة، سيعقّد التفاوض مع الدائنين الحاليين، الذين لن يرضوا تقليص حجم ديونهم مقابل خلق ديون أخرى على حساب الدولة لتصفية خسائر قطاع خاص. بل كما هو متوقّع، سيستهدف هؤلاء موجودات المصرف المركزي من الذهب والاحتياطات، مقابل الديون التي خلقها المصرف على الدولة (راجع المدن).
النتيجة الرابعة: الإفلات من العقاب وعفا الله عن ما مضى
كان من المفترض أن ترتكز عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي على مبدأ المحاسبة والمكاشفة، عبر التدقيق في ميزانيّات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، تمهيدًا لكشف أسباب الخسائر المتراكمة، والتي لا تتصل بمسألة الدين العام أو الإنفاق الحكومة. وعلى هذا الأساس، كان من الممكن إجراء إعادة الهيكلة، عبر تحميل الخسائر للأطراف التي استفادت من أرباح المرحلة السابقة، والتي تسببت بتراكم الخسائر على هذا النحو.
في المقابل، ما يقوم به سلامة اليوم هو العكس تمامًا: تطبيق مبدأ الإفلات من العقاب، وفق سياسة عفا الله عن ما مضى، وتحويل نتائج ارتكابات المراحل السابقة إلى ديون عامّة سيتحمّل كلفتها جميع المقيمين في البلاد من دون أي استثناء، ناهيك عن الإطاحة بحقوق المودعين.
النتيجة الخامسة: المزيد من تركّز الثروة والدخل
حين نتحدّث عن هدم دور الدولة، بفعل زيادة الأعباء التي يقوم سلامة بخلقها، فنحن نتحدّث عن تغييب الوظائف التي كان يفترض أن تقوم بها، على مستوى دعم الفئات الأكثر هشاشة، ومنها تلك التي تُعنى بضمان التعليم الرسمي ونوعيّة خدمات الجامعة اللبنانيّة والاستشفاء الحكومي والخدمات العامّة الأساسيّة وغيرها.
لكن في المقابل، وبفعل خلق الديون بهذا الشكل، سيسدد جميع المقيمين في لبنان الضرائب والرسوم، لتعويم ورسملة النظام المصرفي، ما سيصب في صالح بضعة آلاف من المساهمين في المصارف وكبار الدائنين، الذين استفادوا من عمليّات المراحل السابقة. وهذا الواقع سيزيد من وقع أزمة تركّز الثروة والدخل في البلاد، وهي أزمة كانت قائمة بالفعل منذ عقود، نتيجة السياسات الماليّة والنقديّة التي تم اعتمادها.
في خلاصة الأمر، ما يجري في هذه الأثناء في دهاليز المصرف المركزي ليس تفصيلًا بسيطًا، ولا مجرّد فضيحة عابرة على حساب المال. ما يجري، سيرسم شكل الاقتصاد والمجتمع لعشرات السنين المقبلة، وسيترك تداعيات كارثية لن تتجاوزها البلاد بسهولة خلال هذه الفترة. أمّا المستفيد من كل هذا الإجرام، فليس سوى نخبة مصرفيّة وماليّة لا ترغب بتحمّل نصيبها من الخسائر، ومنظومة سياسيّة لا تريد فتح الدفاتر والتدقيق وإجراء إعادة الهيكلة المصرفيّة على هذا الأساس.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|