الصحافة

لبنان: دمُ الأبرياء على مذبح الصفقات

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تكثّفت الحوادث الأمنيّة في الآونة الأخيرة، وسبقتها وأعقبتها تحذيراتٌ من تدهورٍ أمنيّ يُكمل انهيار ما بقي من جثّة الدولة، وتخلّلتها دعواتٌ عربيّة وغربيّة لإجلاء الرعايا من لُبنان، وتسريباتٌ أوروبيّة حول ضرورةِ توطين قسمٍ من اللاجئين السوريّين، واشتعالُ الحرب في مخيّمِ عين الحلوة، ورافقتها تهديداتٌ إسرائيلية للُبنان، وذلك فيما كانت إسرائيل تستمرُّ بشنِّ عدوانٍ تلو الآخر على مناطق متفرّقة من دمشق.

بعضُ الحوادث الأمنيّة قد يكون وقع بالصُدفة فعلاً، وبعضُها الآخر قد يكون مقصوداً. لكن في الحالتين، تُخرجُ الطائفيّةُ والمذهبيّة أنيابَها، ويرتفع منسوب التأجيج والتهييج، فيتباعد الناس ويتحاربون، ويسقط أبرياء من كلّ الأطراف، ثم تعود المياه إلى مجاريها بانتظار حدثٍ جديد.

توظيف الحوادث أهمّ منها

يُعلّمُنا التاريخ في لُبنان (هذا إذا تعلّمنا) أنّ الحوادثَ بحدّ ذاتِها ليست مهمّة، فالأهمُّ منها هو كيف يوظّفُها كلّ طرفٍ في الداخل والخارج لصالحه في معارك السياسة والصفقات، أو كيف يتحوّل فيها أهلُ الداخل اللُبنانيّ (ومن كلّ الأطراف) إلى مجرّد بيادق على رقعة شطرنج إقليميّة-دوليّة، يربح فيها الجميع سوى الوطن.

يستطيع مثلاً اليوم الحزب أن يقول إنّ سلاحَه الذي ينقلُه بالشاحنات أو بوسائل مختلفة من إيران عبر سوريا إلى لُبنان، شُرّع في بعض بيانات الحكومات المتعاقبة من خلال معادلة "شعب - جيش - مقاومة"، لكنّه يُدرك قبلَ غيرِه أنَّ حجمَ الاعتراض على هذا السلاح مِن قبل الطوائف الأخرى يكبُر يوماً بعد آخر لأسباب داخليّة وخارجيّة عديدة، وأنّه لم ينجح حتّى الآن، وتحديداً منذ حوادث 7 أيار 2008 التي أعقبت بثلاث سنوات اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد انخراطه في سوريا وجبهات عربيّة، في تقديمِ خطابٍ مُقنع لتلك الطوائف، إمّا لشعوره بعدم الحاجة إلى ذلك بسبب فائض القوّة، أو عجزاً، أو لقناعتِه بأنّ هذا السلاح صارَ جُزءاً من معادلة كُبرى للمحور في المنطقة، ولا يحقّ لأحدٍ المساس به.

فلا عجَب بالتالي أن نجد مثلاً النائبة غادة أيّوب تسأل الحزبَ بعد الحادث الأمنيّ الأخير والخطير في الكحّالة: "مَن قرّر أنّ المقاومة الإسلاميّة هي فقط التي يحقّ لها أن تتسلّح؟".

بالمقابل، تعجز الأطراف المناهضة للحزب عن تقديم جواب مُقنع للبيئة الشيعيّة وأيضاً لبعض مناصري الحزب في الطوائف الأخرى، عن كيفيّة حماية الأراضي اللُبنانيّة، خصوصاً الجنوب والبقاع، من دموية إسرائيل واعتداءاتها، لو لم يتوفّر السلاح للحزب، خصوصاً أنَّ الأطرافَ الغربيّة المناصرة لفكرة أولويّة وأحاديّة الجيش اللُبناني في حماية الوطن، لم ولن تقدّم له سلاحاً فعّالاً ضدّ إسرائيل، وسوف تناصر إسرائيل في أيّ حربٍ ضدّ لبنان.

قضيّة السلاح فضفاضة

الواقع أنّ قضيّة السلاح فضفاضةٌ في لُبنان، فهي تغيب وتحضر وفقاً للصفقات الداخلية. وقد شهدت السنوات الماضية تحالفاتٍ غريبة عجيبة، في الانتخابات أو داخل مجلس الوزراء أو في مشاريع قوانين، تجمع بين أنصار السلاح وأعدائه، إضافة إلى أنّ أكثرَ الذين اعترضوا تاريخيّاً على هذا السلاح، أي العماد ميشال عون، عاد من منفاه الباريسيّ لعقد صفقة سياسيّة هائلة مع الحزب، ساهمت طبعاً في إيصاله لاحقاً إلى الرئاسة.

قضيّة السلاح فضفاضة أيضاً عربيّاً ودوليّاً، ذلك أنَّ وضعَ الحزب على لائحة الإرهاب من قبل الدول الخليجيّة والغرب الأطلسي، لم يمنع فرنسا من محاولة عقد صفقةٍ كبيرة معه، بينما صاغت السعوديّة في بكين أحد أهمّ اتفاقاتها العصريّة مع إيران التي تُعتبر المورّد الأوّل للسلاح والمال للحزب (حتّى لو أنّها تفصلُ تقاربَها مع طهران عن موقفها المتشدّد ضدّ الحزب). والحزب نفسه أعطى الضوء الأخضر لتمرير ملفّ ترسيم الحدود البحريّة بين لُبنان وعدوّته إسرائيل، ولو اعترض عليها فعليّاً لما استطاعت الدولة تمريرَها، وبرّر ذلك بأنّه لا يريد تحمّل تبعات تهمة إعاقة مشروع اقتصاديّ كبير للُبنان.

بسبب ازدياد دور الحزب انكفاءً داخلَ بيئته الشيعيّة ومواجهته انتقاداتٍ من حلفاء عروبيّين ووطنيّن قدامى له (مثلاً النائب الناصريّ أسامة سعد)، فإنّ الحزبَ فتحَ الباب أمام مُعارضيه للتشكيك في نواياه بتوسيع "الشيعيّة السياسيّة" على حساب الآخرين، وهو صار يمضي وقتاً طويلاً في محاولة إبعاد هذه التهمة عنه، بدلاً من قراءة نقديّة حقيقيّة لعلاقته مع الوطنيّين والعروبيّين ومع العمق العربيّ.

يُعبّر قادة الحزب بين وقتٍ وآخر عن امتعاضِهم من الهجمة عليهم، فهم لا ينظرون إلى أنفسهم إلّا من منظار أنّهم انتصروا على إسرائيل، خصوصاً في حرب 2006، ويعتبرون أنّ ما يُصيبُهم في الداخل هو نتيجة مشروع خارجيّ وصل إلى ذروته مع "الربيع العربي" و"الاتفاقات الإبراهيمية" بقيادة دونالد ترامب، ونتيجة لوبي إسرائيليّ لم ولن يقبل بتوازن الرعب مع أيّ طرف. وهم لذلك ارتابوا من انتفاضة الناس في عام 2019، وحاربوها بشراسة بالخطاب وعلى الأرض، لكنّهم منذ دخولهم الدولة باتوا كغيرهم في موقع المُتّهم والمسؤول عن انهيار الدولة، وصار السلاحُ بهذا المعنى وسيلة فُضلى لخصومهم للانقضاض عليهم.

المشكلة نفسُها تقريباً نجدُها عند معارضي الحزب وسلاحه، فهم متخاصمون فيما بينَهم، ومتنافسون على منصب الرئاسة، ولم يقدّموا حتّى الآن خطاباً وطنيّاً حقيقيّاً وجامعاً، يقفز فوق الطائفيّة والمناطقيّة لجذب الناس من مختلف المناطق، وجلُّ ما تمّ إنتاجُه هي أفكارٌ فدراليّة فضفاضة، دفعت المعترضين عليها إلى اتّهام أصحابها بالرغبة بالتقسيم.

السلاح والصفقات

لم ولن يشذّ لُبنان عن ثوابته التاريخيّة في الصفقات. ذلك أنَّ الموروثَ السياسيّ اللُبنانيَّ غلّب دائماً المصالح على المبادئ. يكفي مثلاً إلقاءُ نظرةٍ على انبطاح معظمِ ساسةِ لُبنان أمام قائد القوات السوريّة السابق على الأراضي اللُبنانيّة اللواء غازي كنعان أو خَلَفِه رستم غزالة، للإدراك أنَّ المبادئ والكرامات تموت على مذبح المصالح، وأنَّ التصريحات العنتريّة شيء، وبيعَ الذمم في الغرف المُغلقة شيءٌ آخر. ويكفي معرفة عدد مُرشّحي الرئاسة والمسؤولين الحزبيّين الذين يطرقون أبواب الحزب ومسؤول وحدة الارتباط والتنسيق فيه وفيق صفا لإدراك الهوّة بين المبادئ والمصالح.

إذاً المشكلة في لُبنان اليوم هي في العجزِ المُتبادَل بينَ كلّ الأطراف عن إنتاجِ رئيسٍ للجمهوريّة والاتفاق على شكل ومستقبل النظام، والمشكلة الثانية تكمن في ضبابيّة حدوثِ صفقةٍ خارجيّة تُملي على ساسة لُبنان (كما جرت العادة) رئيساً. والمشكلة الثالثة هي أنّ لُبنانَ برُمّته صار بـ"الوكالة"، فالحكومة "تُصرِّف" الأعمال وتُتّهم بسلب صلاحيّات رئاسة الجمهوريّة، ومناصب كبيرة في الدولة من حاكم مصرف لُبنان إلى المدير العامّ للأمن العامّ صارت بالوكالة، بينما معظم مؤسّسات ما بقي من جثّة الدولة ينهار.

لا يُمكن فهمُ تتالي الأحداث الأمنيّة والتصعيد حاليّاً إلّا من هذه الزاوية. فالعجز المُتبادل يرفع منسوبَ الاحتقان، ورفعُ هذا المنسوب يجد أرضاً خصبة بين الناس المشحونين بمليون سبب وسبب، وفي الإعلام.

قد ينجح الحزب في الاتّفاق مع رئيس التيّار الوطني الحرّ جبران باسيل على إنتاجِ رئيسٍ يتوافق مع شروط محورِه، لكن من أينَ يأتي المال والاستثمارات إذا رفضت السعودية ودول الخليج وواشنطن هذا الخِيار؟ ويستطيع مناهضو الحزب إعاقة إنتاج رئيس لسنوات طويلة، لكن ماذا سيقولون لشعبهم الذي يزداد فقراً ويأساً؟

إذاً لا بُدّ من صفقة، ولو راجعنا تاريخَ لُبنان منذ الاستقلال، نجد أنّ كلّ الصفقات سبقتها مآسٍ أمنيّة أو اقتصاديّة أو حربٌ مع إسرائيل. ونجد أنّ كلّ الصفقات يُقتلُ فيها الأبرياء، ثمّ يتصافح الزعماء ويتقاسمون الأرباح ويشدّدون قبضتَهم على رقبة الدولة والشعب. وهنا بالضبط تكمن الكارثة، فمن ينجو من هذا الشعب من معارك الصفقات، يذهب صاغراً بعدها إلى صناديق الاقتراع ليصوّت لمن أفقره.

سامي كليب - اساس ميديا
 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا